نورمان ميلر: الأمريكي الذي لم يهادن
لم يكد يهدأ الصخب الذي أثارته روايته الأخيرة «قصر في غابة» التي تناول فيها طفولة أدولف هتلر، حتى وافاه الموت في الرابعة والثمانين من عمره. كان الروائي الأميركي نورمان مايلر يمنّي نفسه في كتابة الجزء الثاني من هذه الرواية متناولاً مرحلة البلوغ لدى هتلر أو هتلر النازيّ، لكن الموت كان أقوى وقد فاجأه أمس، في أحد مستشفيات نيويورك إثر قصور في الكلى.
مات نورمان ميلر في أوج عطائه، هو المسنّ الذي لم يشعر بالشيخوخة حتى في أيامه الأخيرة. كان يُكبّ على الكتابة وكأنها سلاحه الوحيد الذي به يواجه سطوة الزمن. وتشهد روايته الأخيرة التي أثارت نقاشاً في الولايات المتحدة وأوروبا، على وعيه الثاقب وقدرته على التحليل والسرد في مثل هذا العمر. وفي هذه الرواية التي تجمع بين السرد والوقائع استطاع ميلر الكاتب اليهودي أن ينتقم من «وحشية» الفوهرر ممعناً في تشريح شخصيته في ملامحها الأولى.
أمضى نورمان ميلر حياة صاخبة، ملؤها المغامرة والتمرد والجنون. الشاب اليهودي الذي نشأ في بروكلين ثم انتقل الى جامعة هارفرد وجد نفسه مجنداً يرسل الى الفيليبين. وعندما عاد قرّر أن يفتتح صفحة جديدة من حياته. باشر في الكتابة كما لو أنها فعل عيش بل فعل مجابهة لا يخلو من الفوضى والنزق. عشق الملاكمة وتمرّن على يد محمد علي كلاي. عنفه الداخلي كان يتفجّر من حين الى آخر في تصرّفات غير لائقة. لم يتوان مرّة عن طعن زوجته (الثانية) بسكين، لكنها لحسن حظه لم تمت. ولم يتمالك نفسه مرّة عن لطم أحد الصحافيين وذنبه أنه ابتسم في وجهه.
تزوج نورمان ميلر ستّ مرات وأنجب تسعة أطفال. لكن حياته العائلية هذه لم تمنعه من الانزلاق الى العالم «السفلي» الحافل بالمخدرات والكحول والجنس. ومن هذا العالم استطاع أن يستوحي نصوصاً وشخصيات وأفكاراً. وهذه الحياة المشبعة بالانحراف والصخب لم تحل دون مواصلته الكتابة، بل هو أدمن الكتابة بشغف وكان غزيراً، وبلغ عدد كتبه حتى وفاته خمسة وثلاثين تراوحت بين الرواية والمذكرات والسير والمقالات السياسية. في العام 1950 أخذته الفلسفة الماركسية مصحوبة بالإلحاد. حينذاك كان أصبح كاتباً شهيراً، ووجهاً من وجوه التحرر السياسي والاجتماعي. وراح يعالج في رواياته وكتبه قضايا العنف والجنون ويتطرق الى الجرائم والى اضطراب المجتمع الأميركي. ولعل أعماله، المتفاوتة بين الواقعية التي ورثها عن مواطنه الروائي جون دوس باسوس والطابع الصحافي الذي أخذه عن أرنست همنغواي، سعت الى أن تمثل حالاً من الوعي اليقظ للظلم الاجتماعي المعاصر ولما تمارس السياسة الأميركية من تجاوزات ومآس. حاول ميلر أيضاً مقاربة الأحوال المرضية التي يعانيها مجتمع غربي يعيش أزمة فاضحة. وقد أعلن أكثر من مرّة في الفترة الأخيرة أنه يعارض سياسة بوش الابن معتبراً إياه «أسوأ رئيس» عرفه في حياته.
عندما أصدر نورمان ميلر روايته «الانجيل بحسب الابن» عام 1998 أثار حفيظة الكنيسة الكاثوليكية في نسجه صورة إنسانية صرفاً ليسوع الناصري. لكنه واجه الحملة التي قامت ضده متذرعاً بأن نصّه لا علاقة له بالأناجيل، بل هو مجرد سرد تخييلي. وأثار كتابه الجميل «المذكرات المتخيلة لمارلين مونرو» الصادر عام 1982 ضجة كبيرة وكان بمثابة سيرة واقعية ووهمية لمارلين مونرو ترويها هي بلسانها. وعبر هذه السيرة سعى ميلر الى «تصفية» بعض الحسابات مع بضعة شخصيات أحاطت بالنجمة الكبيرة ومنها زوجها الكاتب المسرحي آرثر ميلر. حاز نورمان جائزة بوليتزر المهمة مرّتين، مرّة عن روايته «جيوش الليل» (1970) وثانية عن «أغنية الجلاد» (1979).
كان نورمان ميلر يردد دوماً وبلا هوادة انه أفضل كاتب معاصر. هذا الرأي كان تقاسمه إياه حفنة من النقاد الأميركيين.
عبده وازن
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد