عودة إلى «سوبر ماركت» أيمن زيدان
تستحق مسرحية أيمن زيدان «سوبر ماركت»، العنوان السوري لمسرحية «لا تدفع الحساب» لداريو فو (نوبل للآداب 1997)، أن تحتل موقعاً بارزاً في قائمة أحداث العام الثقافية، فالمسرحية التي أعيد إنتاجها بعد خمسة عشر عاماً من تقديمها لأول مرة في دمشق (قدمت من إخراج وتمثيل زيدان نفسه في العام 1992) جذبت حشداً من المتفرجين ملأ صالة مسرح الحمراء لعشرين يوماً على التوالي، وكان بالإمكان أن يستمر العرض أشهراً أخرى بجمهور مماثل لو أراد. وبالتأكيد ليس الجمهور وحده ما نقيس عليه في إدراج العرض في المفكرة الثقافية، إنما تلك الصياغة المتماسكة للنسخة السورية لنص قدّم مرات عديدة خارج موطنه الإيطالي.
لقد بوغت «سوبر ماركت» باحتجاجات نقدية كثيرة أخذت عليه استقواءه على نص داريو فو، وخروج الإعداد عن روح فو، وانزلاقه نحو التهريج. لكن الذين قالوا ذلك لا يعرفون النص، كما لا يعرفون صاحبه. لا يعرفون أن «نجاح فو يعود إلى النقد السياسي الكوميدي لدرجة التهريج»، وأن الرجل قضى كل عمره (مواليد 1926) محاولاً أن يتقمص دور هارليكان، ذلك المهرج البذيء والوقح المستعار من الكوميديا الإيطالية الارتجالية، فو الذي غالباً ما «يخلط في الحديث بين الأعضاء التناسلية وسياسة إيطاليا الدفاعية»، لذلك لو شئنا الإشارة إلى نقص ما يعتري العرض لقلنا إنه نقص في كمية البذاءة المعهودة عن داريو فو، مراعاة لاحتشام المجتمع السوري.
يقول داريو فو: «المهرجون الحقيقيون، منذ أرستو فان وحتى موليير، كانوا مشغولين على الدوام بحالات الجوع الأساسية، ليس فقط الجوع للطعام والجنس، وإنما كذلك الجوع للكرامة، الجوع للسلطة، والجوع للعدالة». ولذلك فإنه في «لا تدفع الحساب» يعالج مشكلة غلاء الأسعار الجنوني في إيطاليا (النص مكتوب 1984) عندما يحكي عن نساء المدينة اللواتي يهاجمن سوبر ماركت ضخماً ويسطين على بضائعه احتجاجاً على الغلاء. لكن ملاحقة البوليس لهن تجعلهن يخفين البضائع في ثيابهن فيبدون كالحوامل، بل تبدو كل نساء المدينة كالحوامل. العرض يبدأ من تسليط الضوء على امرأتي رجلين صالحين من العمال، وقد عادتا للتو من عملية السطو، ولأنهما تتوقعان الاصطدام مع زوجيهما فقد جرى إخفاء البضائع المسروقة في ثيابهما، لكن شكل المرأة، الحبلى على نحو مفاجئ، أثار التباساً كوميدياً، وفتح الطريق لمفارقات وقفشات وتعليقات مضحكة. مرة كانت النسوة يحتلن على أزواجهن، ومرة على رجال البوليس. لكن إلى جانب ذلك كان العامل الصالح جيوفاني (أيمن زيدان) يتخلى، تحت ضغط لقمة العيش، وقسوة المدينة التي تحولت إلى فساد و«مولات» ضخمة، عن اعتراضه على السرقة. وهنا فإن تلك المسحة من العفوية التي اتسم بها أداء الممثلين، وبالطبع براعتهم في الأداء وفي التواصل مع الجمهور، إلى جانب عدم تذرع العرض بأقكار كبيرة، قد دفع حقاً إلى إشاعة مناخ لطيف من الضحك. لم نجد فائضاً في جرعة الكوميديا، كان الفائض في جرعة الأداء الخطابي التي ختم بها العرض(تحديداً أداء أيمن زيدان)، وفي تلك الحركة المائعة التي لا ضرورة لها في توجيه المرآة نحو الجمهور في آخر العرض ليعرف أنه معنيّ بما يجري على الخشبة، وأن تلك الشخصيات هي نحن في الواقع. لكن العرض، الذي جعل النص بالمحكية السورية، وهذا ضروري بالطبع لمسرح يريد أن يكون شعبياً وكوميدياً، لم يعمل على تغيير الأسماء عن أصلها الإيطاليّ، وعلى العموم كان لذلك أثر مضحك أيضاً، حين تتنادى الشخصيات الشامية بأسماء إيطالية.
ولأن العرض هنا هو عرض ممثل ونكتة، ولنلاحظ أن نقاد داريو فو لطالما وصفوه بأنه «ليس طليعياً أو تجريبياً من الناحية الفنية، ولا يحمل تطلعات من هذا الطراز»، فلم يلق أحد بالاً إلى الديكور المرتبك، وهو كان يمثل منزلاً لجيوفاني يوحي بأنه قبو متواضع، ولا إلى الإضاءة الأكثر ارتباكاً. الممثل هنا هو الأساس، وقد أثبتوا حضوراً ووقفة مسرحية تستحق التقدير، وتثبت أن المسرح قادر على العيش والانتعاش في بلد متعطش للمسرح. هذه المرة يستحق أيمن زيدان وشكران مرتجى ومحمد حداقي وفادي صبيح وأسيمة أحمد، التحية، أما الأداء التلفزيوني للبعض منهم فيستحق وقفة أخرى.
راشد عيسى
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد