لوحات جبر علوان.. الغرق نحو الداخل

16-03-2008

لوحات جبر علوان.. الغرق نحو الداخل

جبر علوان..لونٌ حادٌ وجارحٌ، ومشهدٌ متحفزٌ في صمته يدفعك إلى التفكير فيما يسبقه أو يليه، لحظةُ كمونٍ حارقةٌ تصدمك، ظلامٌ ما يخلق عمقاً لا محدود، يعاكسه ضوءٌ وحشيٌ وصراعٌ مفتوحٌ، تتضمن اللوحة شخصيتان الأولى محاصرة غالباً، والثانية غائبة رغم حضورها الحسي. هذا ما يدهمك عادةً عند رؤية أي لوحة لجبر علوان ضمن موقعه الإلكتروني الشخصي أو في معرضه الحالي في دمشق في غاليري " آرت هاوس ".
 تتكرر الأنثى في أعمال جبر بشكلٍ لافت، أنثى وحيدة غالباً إلا في بعض اللوحات الإيروتيكية التي تجمع بين اثنين، ومع ذلك تتداخل الملامح والأعضاء ويأخذ الفراغ مساحاتٍ واسعةً مع سيطرة اللون الواحد عادةً ليحضر شعور طاغٍ بالوحدة والترقب، حزنٌ متأصلٌ في أعمال هذا الإنسان، حزنٌ أنثويٌ صافٍ ويأسٌ غير مكتمل ففي اللوحة حالة انتظار ما قد تأتي بجديد..
لك أن تعرف أن اللوحة لجبر علوان من النظرة الأولى، لكن لو منحت نفسك وقتاً من التأمل لأدركت أن النساء مختلفات يجمعهن الفراغ، والعلاقة معه متغيرة بتغير اللون والمكونات من أريكة إلى سرير أو طاولة، فهو يقدم فلسفةً تتغير فيها حياة الأشياء بتغير علاقتها مع الفضاء المحيط بها، وكثيراً ما يركز في اللوحة على تفصيلٍ صغيرٍ يخلق عالماً آخر داخل عالم اللوحة كالساق أو لوحةٍ داخل اللوحة على جدار بألوانٍ حية صاخبة ضمن فضاءٍ يتوزع بين الأبيض والأسود، إنه يكثف الحالة الحسية ويلعب باللوحة، يخلق حياةً أخرى وقيمةً حسيةً عاليةً لتفاصيلَ صغيرةٍ كيدٍ تمسح على خد، إنه يسبح في لا وعينا ويتحرك في الطبقات العميقة منه حيث تتكثف المشاعر وتختزل مراحل كاملة متداخلة مع موروثٍ تراجيدي متأصل في المنطقة.  
أتذكر أن أول لوحة أدهشتني لجبر كانت لامرأةٍ تستلقي على أريكة، ملامحها تغرق في الأسود والرمادي، والفضاء ألوانٌ غامقة تقترب من الأسود، وفي الطرف المقابل من الأريكة بقعةٌ بالأخضر المضيء تخترق صمت الظلمة وتسرد عالماً هائلاً من الاحتمالات كأن تكون شالاً أو فسحةً من الأمل أو بقايا ذاكرة، تتحول هذه البقعة إلى أداة صدمٍ وكشفٍ، والأهم أنه يجعل من اللون وحده عالماً أو سؤالاً مفتوحاً أو طاقةً كامنة وكأنه يتصيد لحظةً من عالمٍ داخلي  ليتحول اللون إلى مجالٍ حيوي تتغير قيمته الحسية بحسب علاقته مع الألوان الأخرى، ولهذا نجد أن الأحمر عند جبر يتنقل من اليأس إلى الجنون إلى الشهوة البرية.
- من يراقب أعمال جبر يكتشف أن حضور المرأة الطاغي بحزنها ووحدتها وعالمها الداخلي المشحون يقابله حضور للرجل بقسوته ضمن علاقاتٍ عنيفة وممزقة، وفي حين أغلب أطراف النساء مستدقة برشاقةٍ تأتي أصابع الرجل في بعض اللوحات مشوهة متعرجة، وأحياناً تغيم الحدود بين الذكورة والأنوثة لتبقى الوحشة والأحلام الملونة الملقية على الأرض، وعموماً معظم أعماله تكون ضمن أماكن مغلقة، وأغلبها في غرفٍ خانقةٍ، وشخوصه تعاني من الاختناق الداخلي رغم الفضاء الشاسع المحيط بها داخل هذه الغرف، فبدل أن يسير بشخوصه نحو الخارج يسير بها نحو عالمها الداخلي الأكثر عمقاً ووعورة وكبتاً، جنسٌ متوحشٌ بخطوطٍ قاسية قد يوحي بالاغتصاب، ويأسٌ مريعٌ أمام زينةٍ لونيةٍ أو جسدٍ رشيق خارجي، ارتماءٌ على طاولة بعد سكرٍ أو قطع وريد، وكأنه يعطينا تكثيفاً حاداًً لقصيدةٍ أو مشهدٍ ما، وأفترض أن مثل هذا النوع من الإبداع يقدم جواباً مهماً على سؤالٍ كثيراً ما تردد "ما الذي تبقى للفنون البصرية والفن التشكيلي تحديداً بعد تطور التكنولوجيا لحدودٍ هائلة..؟!". تجيب لوحات جبر بانفتاحها على ما يتجاوز المرئي والبحث في العمق والإيحاء لعالمٍ مختبئ خلف اللوحة، وبشكلٍ أكثر تحديداً يختبئ في داخله وداخلنا نحن المتلقين، يتحول الفن هنا إلى رصدٍ للحظاتٍ صادقة وبسيطة وعميقة، وهذا ما تعجز عنه التكنولوجيا بحد ذاتها كوسيلة للإبداع القائم على حساسية المبدع وقدرته على الكشف.
نادراً ما يعمل جبر على نفس اللوحة، ففي كل لوحة فضاءٌ جديد وتوازنٌ لوني يختلف عن سواه، ومن ذلك لوحة عازف الأكرديون بعنقه المائل والموسيقى تتناثر عن أصابعه ألواناً والتي تقدم عوالمَ وحالاتٍ مختلفةً. 
كنت دائماً أعتقد أن رسم اللوحة أهم وأكثر غنىً من رؤيتها، وكأنك تبحث في طبقاتها وتراكم الضربات فيها وتغير ملامح شخوصها، وعندما تنتهي تكون كالرواية التي قمت بقراءتها وتنظر لها من الخارج، وهذا يقابل فكرة مدرسة النقد التكويني في الأدب التي تدرس مراحل إنتاج العمل منذ بدء فكرته ومسودته الأولى حتى نسخته النهائية، وتهتم بالأسئلة والخيارات والعالم الداخلي للكاتب وشخوصه ما بين النسخة الأولى والأخيرة من العمل أكثر من اهتمامها بتحليل الصيغة النهائية له.
إن لوحات جبر تناقض هذه الفكرة والسبب أنها لا تنتهي، كثيراً ما أثارني هذا السؤال عند عدد من الفنانين مثل جبر علوان وفان كوخ وبول غوغان، أعتقد أن السر في لوحات كوخ أنه يشكلها من خلال مئات أو آلاف الضربات المتلاحقة والتي تخلق عالماً من الفوضى في داخلك يضمن عدم تشربك لها بسرعة، وعلى عكس ذلك فإن السر لدى جبر علوان يكمن في ضبابية المنظر، وتغيم الملامح وكأنه يوحي بأن الحلم لم يكتمل، وعلى الرغم من أن هذا صفة غالبة عند الانطباعيين لكنه يأخذ شكلاً خاصاً في تجربة جبر تضمن أن إغراء اللوحة لا ينتهي بكل ما فيها من شهوةٍ وحزنٍ وانكسار وانتظار، لتظل مفتوحة غائمة وكأنها بابٌ للحلم، لا شيء نهائي فيها، لا تفصح عن نفسها مرةً واحدة بل تهب نفسها على مهلٍ كتلك الأنثى النائمة في سريرٍ أزرق، إنها لوحة متحركة والصمت فيها هو كلامٌ داخليٌ يبتكره كلٌ منا على هواه.

 

عبدالوهاب عزاوي

المصدر: موقع الأوان

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...