رفض سلطة قيم الجمال، اللغة، التراث، اللا إنسانية
الجمل- مازن كم الماز: بدأ أولا استخدام العبيد في أمريكا كيد عاملة رخيصة لا تتمتع بأية حقوق , و من ثم عمل الخطاب السائد , السياسي و الفكري و "الثقافي" و الاجتماعي و "العلمي" , على تبرير "الواقع" الطبيعي , على تبرير "الحقيقة" التي تقوم على كون هؤلاء الزنوج هم منتجي الثروة المحرومين منها بأنهم مصابون ب "تخلف و تأخر" طبيعي لا شفاء منه مقابل تقدم صاحب الأرض الأبيض , هذا أيضا كان يجب أن يكون الموقف من الهنود الحمر و من شعوب الدول المستعمرة أي من كل ضحايا الرأسمالية الغربية , ثم اختلقت هذه "الحقيقة" بعدها الواقعي بأن أسست قيم الجمال السائدة مثلا استنادا إلى قسمات وجه و تفاصيل جسد الرجل و المرأة البيض و اعتبرت لون البشرة الأسود و تفاصيل الجسد الزنجي تعبيرا عن البشاعة و القبح و ربما القذارة , إن قيم الجمال السائدة في النهاية تعبير عن واقع اجتماعي سياسي سلطوي , إنها ترفض المساواة في الجمال مثلا أو التنوع في الجمال الإنساني كنتيجة للتنوع الإنساني نفسه , إنها تعكس رفض هذا التنوع باتجاه الواحدية الغربية البيضاء , إن القضية الأخيرة ليست حقوقية , في عالمنا اليوم ليست القضية في إعلان حقوق الإنسان العالمي أو في الدساتير الوطنية , إنها في العلاقات السياسية و الاجتماعية القائمة بالفعل بين الفئات و الطبقات , إنها في علاقات الملكية أو من يسيطر على وسائل الإنتاج و في علاقات السلطة التي تنتجها , و في نهاية المطاف في المستوى اللاواعي أو القيمي أو الجمالي للعلاقات الإنسانية , لا يمكن مواجهة السلطة فقط على الصعيد السياسي أو الحقوقي فقط , لا بد من القيام بثورة شاملة على كل تعبير عن علاقات الهيمنة و سلطتها على الإنسان , لا يعني هذا أن القضية ليست في تغيير علاقات الإنتاج أو الملكية , أو علاقة السلطة الحاكمة "برعاياها" , بل إن علاقات الملكية أكبر من مجرد من يملك , إن القضاء على الظلم الاجتماعي أكبر من مجرد وضع وسائل الإنتاج بيد أقلية جديدة , بل إن جمعنتها تتطلب إلغاء فعلي لكل الانقسامات غير الطبيعية بين البشر..
لا ريب أيضا أن اللغة تمارس تأثيرا هائلا على الفكر , إنها أكبر من مجرد مستوعب "محايد" للخطابات الفكرية و السياسية , و اللغة لذلك تمثل جزءا أساسيا من الهوية , إنها جزء من حضور الماضي في الحاضر و من سلطته على الحاضر , و سلطتها هذه هي في تفاعل مستمر مع السلطة القائمة , يمكن فقط أن نذكر مثلا أن أتاتورك قد مد يده إلى اللغة و عدلها جذريا لتنسجم مع المضمون الجديد الذي أراد أن يعطيه للهوية التركية , و يجب أن نذكر التطور في اللغة الأدبية مع العصور المختلفة من التطور الحضاري العربي كتعبير آخر عن مجمل التطور الاجتماعي السياسي و الفكري , في لحظة تاريخية حبلى بالإمكانيات التاريخية الهائلة قام النبي محمد بإعادة تجميع و خلق ثورية لعناصر الهوية العربية نحو مضمون جديد للهوية ثوري بالنسبة لما سبقه بالتأكيد , كان الصراع الذي دار في النصف الأول من القرن العشرين في مصر حول استخدام اللغة العربية صراعا على الهوية , هذا بديهي , لكن الصراع على الهوية و على مضمونها صراع مستمر , إننا هنا ننتقل إلى الوجه الآخر من العملة , نحو رفض التنوع الإنساني استنادا إلى هوية تقوم تحديدا على مرجعية الماضي , القضية هنا هي في ضرورة تقديم تعريف ديمقراطي إنساني للهوية في مواجهة الهوية الكوسموبوليتية الموحدة التي يريد خطاب العولمة الرأسمالية أن يفرضها كمعنى وحيد للهوية الإنسانية و في مواجهة التعريف الأصولي للهوية , قوميا كان أو دينيا , إن الالتزام باللغة الفصحى يعني الاستسلام لسلطة الماضي الفكرية , لرقابته ضد أي حديث يتحدى مجمل مفهومه عن الإنسان , عن الأنا و الهو , و عن وسائل و حدود التفكير و أساسا عن السلطة , لقد كان إصرار القوى القومية الحاكمة على مرجعية الماضي لغويا و تاريخيا في تعريف الهوية وراء تمكن القوى الأصولية من استعادة مكانها في تشكيل الوعي المعاصر للجماهير لأن هذا لم يكن سوى تفعيل للنسق الفكري و المعرفي السائد و الشعبوي..ليس فقط أن الأنظمة القومية لم تكن راغبة , بل لم يكن بمقدورها قيادة ثورة أعمق في الوعي الجمعي أبعد من تأسيس سلطتها الزمانية على مرجعية ماضوية تقوم على قدسية السلطة , إن مقاربة الفكر القومي للتاريخ رسخت السلطة كفاعل أساسي بل و وحيد في التاريخ و كانت الأنظمة القومية مجرد تماهي مع هذا التاريخ القائم على السلطة أساسا..لا يمكن الدفاع عن مضمون ديمقراطي إنساني للهوية دون مقاربة ثورية للغة السائدة , ليس فقط أكاديميا أو في مجال الإبداع الفني , بل أيضا في الشارع , لغة تقوم على حرية فعلية تتجاوز مرجعية الماضي , إن فضاءات الحرية المطلوبة اليوم لا يمكنها أن تنسجم مع مرجعية الماضي المتمثلة في اللغة السائدة , و لا مع مركزية السلطة في التاريخ , و لا مع مرجعية التراث الوحدانية , لا يوجد أي معنى هنا للحديث عن مرجعية أخرى في التراث هي مرجعية الفلاسفة العرب و المعتزلة و العلماء , لأن هؤلاء كانوا قد أعادوا تعريف الهوية على أساس إنساني جامع , عندما مثلا أدخلوا مجمل الفكر اليوناني في ماهية الهوية , الإنسانية هنا , التي أسسوها على ما هو معقول أساسا , عندما سموا أرسطو مثلا بالمعلم الأول دون النبي محمد مارسوا فعلا واضحا في إعادة تحديد مضمون الهوية كما فهموها , أي أن التراث ليس وحدة متناغمة , لكنه يتمثل اليوم في وحدته القائمة على مرجعية أصولية , إن الفكر العقلاني بكل أشكاله لا يحضر اليوم حتى في مقاربة النهضويين , لأن العودة إلى التراث أو الاستسلام لمرجعيته هو موقف لا عقلاني تماما كما كان موقف أعداء العلماء و الفلاسفة العرب المسلمين يومها..هناك شرط أساسي في استيعاب الفكر العربي الإسلامي القروسطي العقلاني أو حتى المعارض ( لأن الخطابات المعارضة كانت في بعض نماذجها لا عقلانية , صوفية أو في شكل فرق غلاة ) في تحديد إنساني ديمقراطي للهوية : و هو فهمه , نقده و من ثم تجاوزه , لا تكراره..إن الإصرار على اللغة العربية الفصحى سيعني أننا محكومون مباشرة أو بشكل غير مباشر ليس فقط بالفراهيدي و سيبويه بل بالمنظومة الفكرية السائدة يومها و بشكل و مضمون السلطة السائدة يومها , إن التغيير الجذري في شروط حياتنا اليوم لا يمكن أن يتم دون بدء و الإصرار على عملية نقد ليس فقط لشكل الخطابات السائدة بل لأدواتها التي تستخدمها..إن قضية تحرير الإنسان تعني بكل بساطة تحطيم كل قيوده لا أي شيء آخر..
الجمل
إضافة تعليق جديد