غسان رفاعي: عابد الجابري يفتح بعض قلبه!
ـ1ـ ها قد مضى وقت طويل، وأنا أتحاشى مقهى كلوني ومطعم لوبروكوف والمزروعين في شارع السان جرمان دوبري في باريس، لا لأنني لا أستملح أجواءهما الشابة الصاخبة، ولا لأنني على عداوة مع من يتردد عليهما، وانما لأنهما مرتبطان بذكريات مريرة، لا أريد أن أستعيد، ولو النزر اليسير منهما.
لقد شهد مقهى كلوني بدايات «التحرك الثوري العربي»، وكان يتردد عليه الرواد الأوائل من دعاة الفكر المتمرد، وكم من اجتماع عاصف عقد فيه، وكم من المشاحنات الهائجة جرت في طابقه الأول ثم تلاحقت الهزائم على الأمة العربية، من محيطها الى خليجها، واختفى الرواد الأوائل، ولم يعد يتردد عليه إلا خليط متنافر من الشباب، ممن يرتدون الجينز الأزرق المجعلك ويمضغون العلكة الأميركية، فبرمت به، وانقطعت عنه، فيما يشبه موقف مقاطعة نهائية. أما مطعم لوبروكوف، فقد كان بؤرة الثورة الفرنسية ومنتجع المتمردين من الشباب الفرنسي، المبهورين بوجودية سارتر، وعبثية كامو، وفوضوية باكونين. وكان يتردد عليه وقد أنشئ عام 1674 كبار أقطاب الثورة الفرنسية من أمثال روبسبيير، ودانتون، قبل أن تتدحرج رؤوسهم تحت المقصلة، وبقي المطعم المفضل لكل الأجيال المتعاقبة من الثوريين، ولاسيما جيل الانتفاضة الطلابية في أيار من عام 1968 ثم تبدلت إدارته، وانقلب الى مطعم بورجوازي لا يقصده إلا المترفون البيروقراطيون من ذوي الياقات البيضاء وبعض المرتدين من مقاولي الثورات الفاشلة في العالم الثالث.
لقد أحزنني أن ينقلب المقصفان المزروعان في حي السان جرمان دوبري الى «اسطبلين» للمتسكعين والمتخلعين، وأن تكشط الذكريات المتوهجة عن جدرانهما العريقة، وأن يلتهمهما «الروتين الاستهلاكي الفاجر» وكان لا بد من أن أسقطهما من سياق حياتي الفكرية والاجتماعية، وأنا أشعر بفداحة هذا الفقدان، ومرارة الفراغ الذي سيولده.
حينما تحدد موعد اللقاء مع الدكتور محمد عابد الجابري، تلامحت في ذهني ذكريات المقهى والمطعم، وقررت، بدافع اللاشعور الثاوي في داخلي أن يكون الاجتماع معه فيهما. انه منبر متحرك في الوطن العربي. ينقل المناقشات الأكاديمية الجافة الى الشارع العربي، فيقلبها الى مصارعات ساخنة في الميادين والساحات العامة، ويعود إليه الفضل في نفض الغبار عن المرجعيات في التراث العربي، وفي ربط وجوه المعاصرة بالجذور التراثية، وكان ناجحاً في إعطاء بُعد معاصر للتراث، وفي الكشف عن ترسبات الماضي في الطروحات الحديثة. كان المقهى يرمز الى «المعاول» والمطعم يرمز الى «المتاريس»، وها هو الدكتور «الجابري» يرمز الى «البوصلة» ألم يقل في كتابه الجديد: «والأم التي ترغب في مولود يخرج من رحمها، محكوم عليها أن تتحمل غثيان الوحام ووخزات الجنين وتقلباته، وما يتلو ذلك من عسر الوضع.
ولربما هذا حالنا وما يتطلبه ذلك من عملية قيصرية إذاً فالديمقراطية في مجتمعنا العربي ليست قضية سهلة، ليست انتقالاً من مرحلة الى مرحلة، بل هي ميلاد جديد، عسير بالتأكيد..».
ہ وكان هذا الحوار معه
ـ2ـ
س ـ يزعم بأن الأزمة التي يشكو منها الفكر العربي المعاصر هي «أزمة غياب».. إذ لم يشهد القرن الذي انصرم وبداية هذا القرن مبدعين كباراً أسهموا في اغناء الثقافة الحديثة، واقتصر الأمر على إعادة انتاج أفكار قديمة أو محاكاة أفكار مستوردة، هل هذا صحيح؟.
ج ـ الواقع أن الفلسفة في جميع العصور هي اعادة قراءة لتاريخها الخاص فليس هناك ابداع فلسفي غير مستند الى الماضي، وكل فيلسوف انما يشكل آراءه وطروحاته إما تطويراً لآراء وطروحات سابقة، وإما نقداً لها، وإما خروجاً عليها.
س ـ يروج الآن أن عصر الايديولوجيا قد انتهى واننا ندخل الآن مرحلة ما يسمى نهاية التاريخ، فكيف يمكن أن تقوم فلسفة نهضوية في عصر الذبول؟.
ج ـ حينما يقول فوكوياما إننا في نهاية التاريخ، فينبغي أن نعطي لكلمة التاريخ معناها الرجعي في الفكر الأوروبي المعاصر. التاريخ عندهم حركة الصيرورة التي أفرزت الدولة الوطنية، وأفرزت، فيما بعد، ما هو رأسمالي واشتراكي أو شيوعي، التاريخ هو صراع بين طرفين، بين نظامين، بين نموذجين، وعندما سقط النموذج الشيوعي، وبالتالي سحبت النظرية الماركسية من التداول أصبح التاريخ طرفاً واحداً. نحن لا نقبل هذا التفسير للتاريخ لأننا نعيش صراعاً مع الغرب والصهيونية، لذا فإن تاريخنا ما زال بحاجة الى افتراضات جديدة، نحن لم نحقق دولتنا الوطنية، ونحن لم نخض صراعاً حقيقياً من أجل تغليب نماذج محددة. إن فوكوياما يحاول أن يتجاوز الشقاق الايديولوجي بالكذب على النفس، وهذا ما يدفعه الى طرح الافتراضات وان يزعم بأن عدو الغرب الجديد سيكون هو الخطر الأخضر أي الإسلام والعرب، أو العدو الأصفر الذي هو الصين وشرق آسيا. يجب أن نعي، ونحن نفكر بواقعنا العربي المعاصر ان هذا السلوك من طرف الغرب هو من الثوابت الحضارية عنده.
س ـ ثمة ثلاثة نماذج مطروحة في الوطن العربي، وقد ورد هذا في معظم كتاباتك: النموذج التراثي والنموذج الغربي والنموذج التلفيقي، أما زال هذا الصراع قائماً في الوطن العربي أم تم تجاوزه؟.
ج ـ هذا التصنيف ليس من تصنيفي، بل هو مطروح منذ النهضة العربية، إذ بدأت تتبلور آنئذ ثلاثة تيارات: التيار الأول هو الرجوع الى السلف الصالح الذي قدّم لنا حضارتنا الاسلامية أو القومية. والطرف الثاني الليبرالي أو المستغرب الذي يرى أن الحضارة الغربية هي الطريق الى المعاصرة والحداثة، أما تراثنا الديني أو القومي، فهو شيء ينتمي الى الماضي. والطرف الثالث يحاول التوفيق أو الجمع، ويضم معتدلين من هذا الطرف أو ذاك، وبعد أن تبين أن هذه الاتجاهات لم تؤد الى حل المشكلة وأن النهضة ظلت عائمة تطرح نفسها بصورة أو بأخرى، قيل لي إن الحل لا يمكن أن يكون من خلال هذه الطروحات الثلاثة، وإنه لا بد من عملية تجديد من الداخل، أي من داخل تراثنا وأن نرتبط بالعصر لا بالاندماج فيه بشمولية كاملة لعلها أمر من الامبريالية، وعلينا الاستفادة من منجزات الحضارة التكنولوجية، ولكن بهدف بناء أو إعادة بناء حياتنا الخاصة، القومية كهوية، كدين، كتاريخ، وكحضارة.
س ـ المنطقة العربية في حالة توتر، هناك سلام مزور مهين كاذب ومراوغ وبالمقابل هناك مقاومة ضعيفة منقسمة محبطة. السلام المطروح له اسم آخر هو الاستسلام وقبول الهيمنة الأميركية ـ الاسرائيلية، والبديل غائم، أو على الأقل غير قابل للتحقيق. ما العمل؟.
ج ـ لا بد من التمييز بين التحليل السياسي والتحليل التاريخي، وفي قناعتي أن التاريخ لم ينته بل هو ما زال يضع بداياته إذا قارنا ما عانيناه وما نعانيه مع ماعانته أوروبا خلال ثلاثة قرون، من حروب دينية، طائفية، شوفينية، امبريالية، اقتصادية، فان ما جرى لنا هو لا شيء بالنسبة لما جرى لهم. هذا هو التاريخ، ويجب أن نعي هذه الحقيقة، ونزيد من عملنا في صنع التاريخ.
س ـ الهاجس المؤلم الذي يعيشه المثقف العربي حالياً هو الديمقراطية، هل هي في مأزق؟ أم إنها تبقى المخرج؟ أم لعلها نوع من الاحتيال؟.
ج ـ دعني أكن تراثياً هذه المرة، وفي البدء لا بد لي من الاستشهاد بنص تراثي نحفظه جميعاً: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فان لم يستطع فبلسانه، وان لم يستطع فبقلبه، وهو أضعف الإيمان» دعني أقل إن المنكر في العالم العربي الاسلامي في هذا العصر يأتي من جهة واحدة هي الدولة. هناك من يريد أن يغير المنكر بيده، وهناك من يريد أن يغيره بفكره ولسانه، وهناك من يعمل المستطاع على تحقيق أضعف الايمان.
أما الذين لا ينخرطون في عملية التغيير هذه فهم ليسوا مثقفين بالمفهوم الدقيق للكلمة. قد يكونون علماء أو أطباء أو فقهاء ولكنهم ليسوا مثقفين. المثقف هو من ينخرط في عملية تغيير المنكر وتبقى بعد ذلك عملية التغيير نفسها والحفاظ على مجراها الحقيقي وعدم الانحراف بها قولاً ولا فعلاً. والحقيقة أنه توجد أخطاء وتجاوزات في كل مرحلة من الصراع، ودور المثقف هو التنديد بهذه الأخطاء والتجاوزات، وأنا من جهتي أندد بكل المثقفين الذين يستخدمون اخلاصهم في خدمة الطغيان ومصادره.
س ـ هناك قضية خضبت التاريخ العربي والاسلامي بالدماء أكثر من أي تاريخ آخر هي قضية الصراع على السلطة أو الحكم.
ج ـ في المجتمعات غير المتقدمة تصنع السلطة من خلال المحددات التي شرحتها في كتاب «نقد العقل السياسي» أعني بها القبيلة والغنيمة والعقيدة، وما زالت السلطة في أوطاننا خاضعة لنفوذ وتوجيه هذه المحددات. ولذلك صاحب السلطة لا بد له لكي يبقى ماسكاً بزمامها من أن يكون صاحب قبيلة أو صاحب غنيمة أي يشتري الذمم، أو أن يكون صاحب عقيدة دينية أو حزبية، وهذا يتطلب منه فرضها بالهيبة والخوف. وهنا لا بد من تحويل القبيلة الى مؤسسة مدنية وتحويل الغنيمة الى اقتصاد انتاجي، وتحويل العقيدة الى رأي. وهذا ما يجب أن نناضل من أجله. حينئذ نتغلب على الجانب الخاص من مشكلة السلطة عندنا أما الجانب العام فهذا شيء يرتبط بالحضارة المعاصرة.
والحضارة المعاصرة تخلق الشرور، ولكنها تخلق في الوقت نفسه، الوسائل التي يمكن بها اتقاء هذه الشرور وتجاوزها.
ـ3ـ
س ـ الولايات المتحدة احتكرت مؤخراً حق تمثيل القيم الغربية، واستخدمت كل وسائل الاكراه والقسر لتعميمها على العالم، فما انعكاسات هذا الاحتكار على حوار الحضارات، وعلى مستقبل الانسان؟.
ج ـ إذا شئنا أن نفهم العلاقة الملتبسة بين الولايات المتحدة والعالم فعلياً، فعلينا أن نستذكر في مخيلتنا السيارة الأميركية السبور 4x4 التي يستقتل الأميركيون على امتلاكها. انها سيارة كبيرة جداً وثقيلة جداً، ومحركها يوزع التلوث على مساحة كيلو متر على الجانبين. انها تستهلك كميات هائلة من المواد النادرة لتؤمن سلامة المحظوظين الذين يستخدمونها، ولكنها تعرض الآخرين لأخطار مميتة، وقد ثبت أن معظم حوادث السير ناتجة عن هذه السيارة ـ الفخ، وفي قناعتي أن السياسة الخارجية الأميركية القائمة كما يقول المفكر الفرنسي ايمانويل تود على الأنانية والغطرسة، والنهب الوقح، وعدم الاكتراث بعذابات الآخرين وهمومهم، هي صورة طبق الأصل عن هذه السيارة: إنها تدّعي القيام بمهام على غاية من الأهمية، ولكنها ليست أكثر من عدوان فاجر على حقوق الآخرين، بل على انسانيتهم.
من أكثر الكتب غرابة، هو الكتب الذي وضعه تيري ميسان، في مطلع هذا العام، والذي برهن فيه ان هجوم 11 أيلول عام 2001 ضد مبنى وزارة الدفاع البنتاغون لم يحدث قط، إذ لم تتحطم قط طائرة عامة بالقرب من مبنى البنتاغون، وان الأمر لا يعدو أن يكون اكذوبة افتعلتها المؤسسة العسكرية الأميركية لتبرير حربها على الإرهاب، وكانت معالجة الكاتب ميسان لهذا الموضوع مشابهة لمعالجة ظاهرة الانكاريين من المؤرخين الذين يشككون في محرقة اليهود ويؤكدون ان الهدف من المبالغة في عدد ضحايا المحرقة هو اشهار سلاح العداء للسامية الذي أرعب أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، تماماً كما أفرزت حوادث 11 أيلول ظاهرة الحرب على الإرهاب التي ترعب العالم الثالث كله، وتبرر اتهام كل من يناضل من أجل استرداد حريته واستقلاله بالإرهاب.
د. غسان رفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد