البيروقراطية و الفن والدين في مجتمع البائسين
الجمل- مازن كم الماز: نضج الجيل التالي من أبناء المسؤولين و ظهر إلى جانب هؤلاء أيضا شباب ينحدرون من أبناء البرجوازية الجديدة , هؤلاء الشبان هم من تجدهم اليوم في الحفلات المنتشرة للموسيقى الجديدة التي تدمج الموسيقى العربية بموسيقى الجاز , هذه الموسيقى جميلة بالفعل , "أصيلة" و في نفس الوقت "متجددة" كما يقول من يسمعها و من يبدعها , بل قد يحلو للبعض أن يقول أنها ثمار ناشئة من تلك البذور التي بذرها سيد درويش و الرحابنة مثلا , قد يكون كل هذا صحيحا إلى حد ما . لكن الأكيد من دون أي شك أنها في نهاية الأمر موسيقى نخبوية , ليس فقط بمعنى أنها تحتاج إلى مستوى رفيع من الوعي الفني , و ما يرتبط به من مستوى معرفي و وقت فراغ مخصص لتذوق الفن و الإبداع ناهيك عن موقف يعتبر هذا الفن و الإبداع جزءا أصيلا من إنسانية الإنسان , لتذوقها بل أولا بمعنى أنها محبوسة في صالاتها الخاصة المكلفة , التي يقع أكثرها في فنادق الخمس نجوم , إنها معزولة تماما بجدار كتيم عن الغالبية العظمى من الناس..على الجانب الآخر من المشهد أي من الواقع يبدو الناس في عالم آخر بالفعل , أذكر ذلك الصيدلاني الذي قابلته في صيدلية في حزام الفقر حول دمشق الذي قال لي ذات يوم أن مرضاه – أغلبهم من عمال البناء العاديين و ليسوا "مرضى" بالمعنى الطبي – يأتون كل يوم خميس ليشتروا حبة فياغرا و بعض قاتلات الألم العضلي و المفصلي ليهدؤوا من آلام أجسادهم و ليتمكنوا من ممارسة الجنس , يستهلك هؤلاء البشر نهارهم و بعض ليلهم و جل قواهم الجسدية و النفسية و الروحية في ملاحقة رغيف الخبز و ما أضيف إليه وفق قوانين الاستهلاك الدارجة من سلع و ذلك حسب قدرة كل منهم و درجة تحمله للآلام العضلية و حدود ارتفاع أسعار هذه السلع حسب مصالح من يحكم الناس و يملك مصيرهم , و يمكنك أن تضيف إليهم من تشاء من البشر الذين يستهلكهم تماما النضال من أجل لقمة الخبز و ما يلحق بها في إطار مجتمع المشهد الذي نعيشه , هؤلاء ينحصر تواصلهم مع أي إبداع فني على المسلسل بعد نشرة الأخبار أو الأغاني "الأخرى" التي تسمعها في الميكرو باصات و باصات الهوب هوب , ما هذا إلا جزء من عملية الانفصال الكاملة بين هذين العالمين , يبقى أن نؤكد أنه من المنطقي تماما أن تضمحل أي قدرة على الإحساس أو حتى مجرد التفكير بالجانب الجمالي من الوجود ناهيك عن أية قدرة على الإبداع الفني من حياة هؤلاء و أن تلغى تماما أمام الكدح اليومي الضروري , و أن يصبح عالمهم الروحي خاو إلا من بقايا أو شذرات متفرقة متشظية أو أن يكون خاضعا بالتمام لرجل الدين المصدر الوحيد المتبقي لأي توجيه روحي مؤثر و الذي لا تزيد معرفته كثيرا عن هؤلاء المتعبين في النضال من أجل لقمة العيش و الذي لا يرى الفن و الإبداع أو الجمال في العالم إلا من خلال المحظورات الدينية فقط..في الحقيقة يرتبط الإبداع و الإحساس الفني بشكل عضوي مع وقت الفراغ المتاح للإنسان , و إلى حد كبير يعاني غالبية الناس في هذا الخضم من مشكلة في إيجاد وقت فراغ "حقيقي" ناهيك عن تدني مستوى التعليم الرسمي المقدم للجماهير ناهيك عن سماجة هذا التعليم و اعتماده على التكرار و الحشو الفارغين لرؤوس الطلبة أما الإعلام الرسمي فإنه مخصص أساسا لمهمة التهليل للنظام و تبرير الواقع و تكريس الاستسلام تجاهه أما فضاء الأثير فيسيطر عليه إعلام البترودولار المخصص هو الآخر لتمجيد الوضع القائم و تكريس ذات قيم الاستسلام و الخضوع في أشكال و ظروف مختلفة..في الوقت الذي يصبح فيه "الفن الأرقى" , كما كانت الحالة دوما , إما خاضعا كلية للحالة السلطوية السائدة سياسيا و يتحول إلى مجرد تبريرها الفكري أو مطية لإيصال رسائلها الخاصة للمضطهدين أو أسير إصرار رأس المال على الربح أي النظر للفن على أنه عمل تجاري , الأمر الذي يجعله إلى حد كبير يخاطب تلك النخبة القادرة على فهمه من جهة و على شرائه من جهة أخرى تاركا الخبز و المازوت و الدواء كأولوية أعلى لدى غالبية الناس..هنا و خلافا للمفهوم النخبوي سواء للديمقراطية أو للحرية – التي لا يحب الليبراليون استخدامها – أو لأنسنة العالم كما تستخدمها و تشرحها النخب , فإن المفهوم التحرري لا يكتفي فقط باستبعاد و إدانة التفريق بين الناس قياسا على مواقعهم الاجتماعية الشيء الذي ردده الكثير ممن نسب نفسه إلى إصلاح البشرية و حتى الأديان التي تزعم أنها تقوم على أخلاق الرحمة و العطف التي أدانها نيتشه على أنها أخلاق العبيد , بل إنه يذهب أبعد من ذلك , في الحقيقة ما أقصده هنا ليس فقط أن يتمكن كل عامل بناء في سوريا و في العالم من قراءة نزار قباني و الاستمتاع به , أو قراءة ماركس أو نيتشه أو ابن حنبل أو حسن البنا أو روسو مثلا باهتمام , بل أن يصبح نفسه منتجا للفن و للفكر , و بالتالي أن يكون إنسانا كاملا , أن يكون إنسانا مستقلا يمارس تأثيرا أساسيا على مصيره و على عالمه , كائنا يمارس حريته أو يوسع باستمرار مساحة الحرية التي يمارسها في هذا الوجود , لا مجرد تابع يجيد السمع و الطاعة كما تريده البيروقراطية الحاكمة التي تعتبر نفسها مسؤولة عن شعوره "بالانتماء الوطني" أو الأصولية التي تعتبر نفسها مسؤولة عن روحه , و لا أن يكون متفرجا و مستمعا "جيدا" لما تردده النخب "بذكاء" كما يريده الليبراليون , بدل هذا الصخب النخبوي الذي يتسلل بخجل وسط الصمت الذي تفرضه السلطة سيكون على هؤلاء , خاصة الأكثر تهميشا على أي مستوى , أن يبدؤوا بممارسة التفكير و التعبير بحرية , بأن يمارسوا الجمال كما يرونه , أبعد من هذا النقاش المغلق الذي تمارسه النخبة مع نفسها و مع الآذان المفتوحة للأمن السياسي و كل فروع المخابرات كممثل أساسي عن السلطة و الذي يتحول إلى مجرد زوبعة في فنجان , إلى مجرد غيمة صيف لا تنجب المطر..لا يتعلق التغيير بالنخبة بل برجل الشارع القوة الوحيدة المضطهدة من كل القوى و الطغم السائدة و القوة الوحيدة صاحبة المصلحة في الحرية الفعلية أبعد من حرية النخب في حكمه و تداول هذا الحكم..يجب هنا طبعا فهم الإمكانيات التي توفرها التكنولوجيا المعاصرة و محدوديتها في نفس الوقت لمهمة كهذه , لن تقوم التكنولوجيا بتثوير العالم , هذه مهمة المضطهدين وحدهم , قد تسهل أو تعقد مثل هذه المهمة لكنها لن تلغيها , لقد أعطى جورج أورويل مثالا هاما على كيفية تحول التكنولوجيا إلى سلاح للاستبداد و تأبيد الوضع القائم في روايته 1984 , حيث يقوم النظام بخلق لغته الخاصة و فرضها , لغة تستبعد أية إمكانية للتعبير عن الاحتجاج , قدم أورويل في روايته الخيالية تلك نموذجا عن نظام توليتاري شمولي يستخدم أرقى تكنولوجيات ضبط السلوك البشري و السيطرة عليه و توجيهه , إننا اليوم مع التمركز الشديد لوسائل الاتصال الجماهيري بيد الطغمة المالية أو بيد البيروقراطية الحاكمة و جوقة مادحيها فإننا نعيش بالفعل في مجتمعات و عالم شمولي تماما , حيث يمكن إعادة إنتاج الاستبداد و استغلال الناس بانتظام و باستمرار , هناك بالتأكيد هامش تتيحه التكنولوجيا الجديدة و تفرضه حاجة من يحكمنا و يتحكم في لقمة خبزنا لشيء من الموضوعية يسبغها على إعلامه يمكن للنخبة أن تتنفس فيه , لكن الناس لا يصلهم أي من هذا الهواء الضروري وسط رائحة العرق و الابتذال الخانقة , يعرف الجميع بما في ذلك النخبة أن شيئا كهذا يحمل كل مخاطر الفوضى , انتفاضة العبيد و تحولهم إلى سادة , في المقابل فإن عملية تغيير الواقع القائم و هزيمة الاستبداد تبدأ عمليا من خلق مؤسسات و وسائل تبادل للأفكار لا تقتصر على العشرات أو المئات و لا الآلاف بل ملايين الناس , و من التعزيز الذاتي لكل إنسان , خاصة المضطهدين المغيبين عن أي نقاش يتعلق بحياتهم أساسا , و حتى كمقدمة تحويل الحرية الإنسانية من سخافة أو من هرطقة إلى حلم و من ثم إلى غاية رغم أنف كل المستبدين..وضع الموقفيون مهمة أساسية أمام الفن الآخر , المعارض , الحالم , و هي تحويل المشاهد المتفرج السلبي في مجتمع الاستعراض السلعي القائم على اغتراب الإنسان و تشييئه و استلاب عقله في المشهد إلى مشارك فعلي , إلى خالق , إلى سيد قادر على هدم الواقع و الخروج من شرنقة العبودية , عبودية العمل المأجور و عبودية المؤسسات القائمة على القمع..قد يكون على الثوريين القادمين من رحم الناس أن يبدعوا و أن يعبروا عن ثورتهم الشاملة هذه , في وجه جميل يرسمونه على حائط مثلا بطريقة تعبر عن الحياة أكثر مما جرى حتى اليوم , في قصيدة جديدة ترفض قوانين الصمت , في أشكال و في لغة تتمرد على شروط السلطة و النخبة اللتان تحرصان على التباري بينهما في اتجاه تكريس الواقع القائم أو تغييره نحو سلطة بديلة , أو إعادة إنتاج ثقافة ألف ليلة و ليلة الشعبية الحالمة بالوفرة الاقتصادية و بالحرية التي تقيم منظومة قيمية موازية تمجد المرأة و العبيد على حساب الملوك , ليس التغيير مهمة النخبة , هذا الهراء النخبوي الذي يريد تحويل قضية تغيير العالم و مجتمعاتنا إلى معادلة رياضية عصية على الفهم لتبقى ملكا للبعض , لتبقى حياتنا ملكا للبعض , هذا لا علاقة له بالحرية التي لها معنى واحد فقط : حرية الإنسان أي حرية الجماهير بالتحديد , و ما دون ذلك ليس إلا وهم يعيد إنتاج كل التاريخ البشري "المتحضر" أو اللا متحضر أي تاريخ الحروب و القهر و الظلم و الاستبداد , تاريخ السلطة أساسا , من جديد........
الجمل
إضافة تعليق جديد