أنسي الحاج: اعزفـي لنــا
التجدّد هو أن تُنْكر رصيدك. انفِ شائعات حياتك. ما سيحصل هو الشراع، وإلاّ فحَجَرٌ أنت، فراغٌ سماؤك. عشها سلفاً فتستحق المفاجأةُ تسميتها. انهبْ أَمامك، لن تنهب أكثر من سراب. لا خطّ يفصل بين عافية واعتلال، فكلاهما موجة، وما بين موجة وموجة عدمٌ أسرعُ من الطير، وما بين طير وطير هواء يلاحق هواء إلى هاوية.
تقول «النكبة». أيّهما أكبر: نكبة تُنْشَر على السطوح أم نكبة مكتومة؟ أيّهما أكبر: مليون أم واحد؟ السؤال خطأ، تُقذف الكرة من مرمى إلى مرمى، لا فرق بغير الضوضاء. النكبتان نكبة. الفاصل هو الأسلوب.
يلحق بنا الشكل في السرّاء والضرّاء. يلحق بنا ليعطينا أملاً. لا شكل الواقع، فلا وجود للواقع، بل شكل الخيال. لا وجود إلاّ لما يرسو في الخيال.
اليوميّات، مُذلّة، كريهة، مرفوضة. الشكل هو الحساسية لا الإحساس، هو الانطباع. الحياة انطباع لا غير. الروائح، الملامس، المذاقات، الوعكات، الأدواء، الشفاءات، المعجزات، انطباع بانطباع. مَن ذا له صبرٌ على الحياة العمليّة؟ نقضيها عند أقاصيها. ليت بالإمكان التحكّم في وظائف الجسد! ظلمُ التكوين لا يُحْتَمل، لا تُحتمل الحاجة ولا الرضوخ ولا العجز. بالكاد يُحتمل الهرب. لا يحتمل الاختلاط ولا الوحدة. لا تُحتمل كواسر الوجود، لا تُحتمل في عينين أرقّ من الهواء، لا تطاق الحياة خارج الأسطورة، في غياب هدهدة الحكايات. مرفوض نتنُها، زَنَخُها، مردودٌ عَكَرها، مردودٌ ما يقال لنا أنه طبيعي، مردودٌ الطبيعي، غير إنساني إلاّ ما يُرهف الشعور ويحتضنه، وما يلاعب الحواس ويزيدها شجواً، وما يوسّع جمال الذهن.
ما نحن لولا لمسة المُرْعش، لولا الكَمَنْجات؟
■ ■ ■
الرفيقة الكمنجات، تَطْلَع أنغامها من جوارح الأجنحة، من أحشاء الجوارح، عبر أسلاكٍ تخترق الجدران من الجحيم إلى السماء، تخترق التعبير من ناره إلى مائه وبالعكس، من وعيه إلى لاوعيه وبالعكس، تقف على رؤوس الأشجار فوق رؤوس الجبال، تُظلّل الطفل والعجوز، تُشبشب المفاصل المتيبّسة، تبدّد ضبابَ الوهنِ عن العيون، الرفيقة الكمنجات، كُوني عند المهدِ فيسهل المرور، وكوني مع مراحل المسيرة، واختمي عند الختام، لستِ رفيقةً فقط بل أنتِ حناجر الملائكة، تمرّين بي كما يمرّ الهواء في السنابل، كما تَمرّ المرئيّات قبل العمى، تمرّين بأسماعٍ هي اختُكِ، أسماع هي أوتار، أوتارٌ هي ألحان، ألحانٌ هي سلالات تسهر على الأقوياء حين يضعفون وعلى الضعفاء حتّى يشتدّوا، أو حتّى يذهبوا بأمان، أو حتّى يَخطفوا حياتهم بأنفسهم فتنيمهم الغفلة على زندها. الرفيقة الكمنجات لا تشبهين عازفيكِ ولا سامعيكِ، تحرّككِ أنامل تجهل ما تفعل، لا تصغي إلى ما تفعل، أنامل هي أرواح ثانية رُكّبتْ على الأيدي. أنتِ الذكريات المُنْقذة، مع أنّكِ لم تكوني شريكةً فيها، لكنّكِ شريكة دائمة لكلّ سحر. وأنتِ الدموع التي تشرق في العهد الأخير، دموعُ ضلوعٍ عَصَرها الأسى فأضحت خمراً، ودموع كبرياء خالجها ضميرها فانكسر ظهرها كما تميل الحورة فجأةً تحت الريح. وأنتِ المسؤولة عن هذه الدموع لأنّكِ تستثيرينها ولا تذرفينها، وتحتفظين برصانتكِ بينما تَسْبحين بالمأخوذين إلى مروج الذهب، وتصبحين كالمعشوق البارد، يقول مفعوله ما لا يقوله فعله، وكلّما اعتصَمْتِ بحيادك المهنيّ تَفكّكَ برودُ السامعِ وتحلَّلت صلابته وصار الرجل أشبه بالمرأة والمرأة كمنجة، ولا تدري أأنتَ السامع المراقب أم من أعماقك تنساب هذه اللازوردات وتتفجّر تلك الزوابع. كم في العازفين من جمود العاشق المنصرف إلى إمتاع المعشوقة! وكم في هذه الآلات من جبروت الدماغ الزعيم! وكم تستدعي دموعنا المتدحرجة من الأوتار، كم تستدعي من انفصال الفاعل عن المفعول به! يا لهذه الغربة الفاحشة الخصب، يا لهذا الوقار المنظَّم مُفتَّق الحنايا! يا لتبادل الجهل ما أكرمه بين هاتين الضفّتين! لا تَدَعينا نلمسكِ بأيدينا أيّتها الكمنجات! رفقاً بالكمنجات! ورفقاً بما تفعله بنا! لندع هذا التحويل العجيب لحال طبيعته، ولننسحب زمناً.
■ ■ ■
الكثير يقال في هذا البحر المغناطيسي. ولكن حذار الضجيج والمناسبة إصغاء! وكيف الكلام والألفاظ أصوات، العبارات أنغام، الأنغام سَحْقٌ لكلّ ما ليس هي، الأسماء نوطات، الذكريات أغانٍ، الأغاني أعناق الآلهة، الآلهة في نخاعنا الشوكي... كيف التعبير عن الإكسير والتعابير ماتت، والكائنات ماتت، ولم يبقَ غير ذَهَب الكمنجات وقلوبها، غير دموع الكمنجات وأكبادها، غير إلهِ الكمنجات؟ تُمطر ألحاناً، تُمطر الألحانُ كائناتها الكاملة، تُمطر الألحان أشكالاً لا يُشتهي أكمل منها، تُمطر نساءَنا المحلومات، ومعبوداتنا العتيقة والجديدة، تُمطر أفكارنا التي ليست أكثر من مشاعرنا، وما من عالمٍ غير مشاعرنا، وما من أوزانٍ غير أوزانها، ولا قوافٍ غير قوافيها، نثرها هو البحر، وإيقاعاتها أجراس الإيمان وضربات الكفر، تُمطر دروباً خضراء، قرىً للمراهقة الدائمة، تُمطر مواقدَ في الغرف الباردة، غُرف الغرباء والغريبات الحميمة، غرف الهواجس والملابس، غرف المراهقة المسكونة بالأشكال، المتعتعة سكراً بالأشكال، بالتدويرات والظلال والنبرات المفاجئة واللمس الخفيف المختلَس، تُمطر الأعالي والمنحدرات، الأشكال الباعثة على الرؤى، الأشكال التي تتسلّم أو ترفض أوراق اعتماد المضامين، الأشكال التي تَصْنَع أنفاسنا وعيوننا ونبضنا وأحلامنا، الأشكال التي هي أحلامنا ولا أحلام لنا سواها، تُمطرُ الكمنجاتُ بلا لحظة سقوط، بلا ملل، ومن دون عازفين، من دون عازفين يشاغب حضورهم على أرواحِ الكمنجات، تُمطر ما يُغشّي زجاجَ نفوسنا بضبابِ السعادةِ التي لا تُغْفَر.
■ ■ ■
الله العريق القِدَم هو هذا، والله المقبل هو هذا، والله الراهن الفاقد أهله الباحثُ عن أوطانه، هو هذا.
إلهُ أنوارِهِ وعيوننا المفتوحة، والتي لا تُغْمَضُ إلاّ على انخطاف.
إلهٌ نواتُهُ لَهَبُ الإلهامِ الخلاّق الذي يتجدّد كلّما اشْتَعَل، إلهٌ يتراءى كأجمل ما يكون في ثنايا فكرة، تحت إزميل نحّات، في عطرٍ خلاّب، على صفحة كتاب، وعند سفحِ الرفيقة الكمنجات.
ولا تَسَلْ حينها عن منطق، إنّك في حضرة السحر الأعظم للكون كما كان في النشأة، الكون مغتسلاً بشِعر الأعماق، مضيئاً متلألئاً بحبٍّ ليس هو الحبّ، ساحراً ومسحوراً بجمالٍ ليس هو الجمال، منبجساً من الظلمات شمساً كعمود النار، لا يعرف رماداً، لا يعرف هبوطاً، لا يناله دمار، ولا يعرف غير السحر، السحر التام، لا يعرف غير أن يكون تمام السحر.
■ ■ ■
كلُّ بركانٍ عرضة للانطفاء إلاّ بركانُ الشاعر، فيظلُّ يتأجّج مهما ترامت حوله الصحراء واستشرى الفراغ. غير ضروري أن يكون في حالة كتابة ليكون في حالة غليان: أحاسيسه ورؤاه، وحتّى تجعّداتِ شيخوخته، تجعله واقفاً على مفترق الطرق. ويخسر رفاقاً ومسرّات في عزلته لكنه يزداد اتحاداً بكيانه، شروقه حريّة وغروبه شروق.
■ ■ ■
... وتعود الروافد، الجداول والأنهار، تعود الجذور كلّها إلى منبعها: الخيال، الخيال الكلّي الطوبى.
الكائنات مجرّد مادة أوّليّة للخيال. حتّى ما كان منها فوّاراً بالفتنة موّاراً بالإغراء، غزيرَ خَصْبِ الاحتمالات والافتراضات، لا بدَّ له من حضانة الخيال. فالتتمّة هناك والعصمة هناك.
كم هم شجعان أهل الواقعيّة! أمّا نحن فننتمي إلى جالية العصافير، المحتاجة على الدوام إلى خمر السراب.
بلى، امرأة الشاعر خياليّة. بلى، وطن الشاعر خيالي. بلى، العالم، العالم القابل للتحمُّل، هو ما يبنيه أو يعدّله خيال الشاعر. الشكر لمَن يتوكّل بالواقع كما هو، بالمرأة كما هي، بالرجل كما هو، بالطبيعة كما هي، بالعلاقات كما هي، بمجرى التاريخ كما هو. الشكر، التقدير، الإعجاب. هؤلاء أبطالٌ حقّاً، هؤلاء جرّاحو الحياة. أمّا نحن فننتمي إلى الهشاشة، عيوننا تخاف باهرَ الضوء، وأصابعنا تريد أن تظلّ عمياء.
نحن جبناء الواقع، بقايا البحر، يتامى الرقّة والعَبَث الطفولي، نعيش وأيدينا تارة فوق عيوننا وطوراً فوق آذاننا من فرط التحاشي. ولا يمكن إنقاذنا.
اعزفي لنا هلاكنا أيّتها الكمنجات...
أنسي الحاج
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد