من قدموس إلى أوروبا تناغم عربي غربي
في حفل ارتقت فيه الروح، احتفاء بموسيقا تزاوج الشرق مع الغرب، وتحت رعاية جمعية النهضة الفنية، بالتعاون مع شركة تكوين والاتحاد الأوروبي، إضافة إلى مساهمة فندق ومنتجع تدامورا، السفارة النمساوية، السفارة الإسبانية، وفندق الفورسيزنز، اجتمع ستة عازفين أوروبيين وثمانية عشر عازفا محليا وكورال أطفال على مسرح الدراما لينسجوا موسيقا بعنوان حوار من قدموس إلى أوروبا، الذي أبدعه الموسيقار السوري حسان طه، وبقيادة ميساك باغبودريان.
اعتمد العمل على أسلوب موسيقي أقرب إلى البرامجية، التي بدورها تعتمد على تكنيك اللحن الدال، حيث تعمل الموسيقا على خلق حالة مشهدية بصرية وفي أحيان كثيرة لونية إيحائية بعيدة عن التصوير الواقعي المباشر.
كتب العمل لتشكيل آلي أقرب لموسيقا الحجرة، فهو عبارة عن أوركسترا وترية صغيرة بتركيبتها العادية «كمان أول، كمان ثان، فيولا، تشيللو، وكونتر باص» آلتا نفخ هما الكلارينت، الهورن، آلة البيانو، إضافة لآلات إيقاعية غربية «تمباني، فيبرافون، تامتام وباص درام»، مع الآلات العربية التقليدية أو ما يسمى عادة (التخت الشرقي) وهي الناي، القانون، العود، الآلات الإيقاعية العربية والشرقية.
وللمقام العربي (الراست، البيات، والسيكا) حضور قوي في سياق العمل، إلا أنه حمل بعدا دراميا وإيحائياً أكثر من بعده الغنائي الذي اعتادت الأذن العربية عليه، مع معالجة موسيقية خاصة تتضمن الكثير من تكنيك الهيتروفونية.
إضافة إلى حضور الإيقاعات العربية الخاصة بضغوطها مثل إيقاع السماعي الثقيل-الأقصاص- الجورجينا- وإيقاع المدور الهندي.
قسم العمل إلى قسمين: قسم آلي قائم على سرد موسيقا لأسطورة (قدموس وأوروبا) وتضمن تسعة مقاطع موسيقية تحمل عناوين مختلفة (شمس، أرجوان، رقصة أوروبا، قدموس المعلم الكوني الأول، جوبيتير يختطف أوروبا، قدموس يبحث عن أوروبا، قدموس يبني طيبة ويعلم الإغريق اللغة الأوغاريتية، رقصة قدموس وهارمونيا، قدموس الطفل يلتقي جوبيتير الطفل لبناء العالم من جديد.
القسم الثاني من الحفل غنائي أداه كورال ألوان مع أطفال من الـsos بقيادة حسام بريمو، من كلمات الشاعر ثائر زعزوع، وهذه الكلمات مبنية على استبيان طرح على 120 طفلاً سورياً حول علاقة الطفل السوري بالآخر ومدى رغبته في الحوار معه وما يرغب فيه هذا الطفل لنفسه وللآخرين.
كما تصف الكلمات أسطورة قدموس وأخته أوروبا.
في مؤتمر صحفي عُقد في فندق الفورسيزنز قبل الحفل تحدث المؤلف حسان طه عن فكرة الموسيقا والتحضير للحفلة فقال: الأستاذ راجي سركيس قدم فكرة عامة حول الحوار بين الشرق والغرب وأعطاني مطلق الحرية للبحث، وتم النقاش مع جمعية النهضة وشركة تكوين حول كيفية عمل شيء خاص لهذه المناسبة، فبدأت من أسطورة (قدموس وأوروبا) وتقول هذه الأسطورة: إنه بعد خطف زيوس لأوروبا بأسلوبه اللعوب، يدب الحزن الشديد في قلب والدها الملك أجينور ملك كنعان، فيدفع شقيقها قدموس للبحث عنها في أصقاع الأرض ويوصيه بألا يعود من دونها. يحاول قدموس إيجاد أخته أوروبا لكن من دون جدوى، إلى أن يصل لبلاد الإغريق، حيث يقابل العرافة دلفي فيطلب مشورتها، فتنصحه بالتخلي عن تلك المهمة، وفي النهاية يستقر قدموس في بلاد الإغريق ويبني مدينة طيبة ومدناً أخرى إكراماً لزوجته هارمونيا، ويعلّم الإغريق اللغة الأوغاريتية.
وعن سبب تبنيه هذه الأسطورة قال الأستاذ طه: للبحث عن شيء تم فقده، وعن عدم احتكار معرفي يصل إلى الآخر محملاً بلغة وأحرف وعلم باليونانية (اللغة الأوغاريتية).
وفيما يخص كيفية التعامل مع الموسيقيين العرب أردف: إن معظم الموسيقيين الذين يعزفون على آلات شرقية عملت معهم سابقا وهم من طلابي...
الإشكالية الكبيرة تكمن في آلية تفكير العازف الشرقي وطريقة تعامله مع الموسيقا المكتوبة!
فهل السبب في المرجعيات أم بكيفية النظر للموسيقا، أم الآلة تفرض على الموسيقي عدم التقيد بالنص؟
كما أكد حسان طه أن الأوركسترا هي توحيد للعاطفة الجماعية، والعزف الشرقي حتى الآن مازال واقعاً في إشكالية الفردية وعدم احترامه للنص المكتوب!
نحن نريد أن نضع قاعدة للمؤلف وللعازف الشرقي، والآلة الموسيقية في هذه الحفلة لم تعد تطرب المستمع بل هي آلة تلون... أريد أن يرى المستمع الرصد بطريقة أخرى وأن يسمع العود والقانون بأسلوب مختلف.
أهم ما يميز هذا العمل الروح الجماعية فالعازف ينتظر دوره ويحترم دور الآخر وأسلوب الأداء ويتقيد بالنص وبتعليمات قائد الأوركسترا وبكيفية إعادة قراءته للنص.
أضاف الأستاذ حسان: لكل مقام ارتكازات وأسلوب بالأداء، وأنا أعدت النظر بالمقام نفسه وأسلوب الارتكازات التي يقوم هذا العمل عليها، وغيرت قليلاً بالأشكال الإيقاعية التي يمكن أن يكتب عليها.
لا أريد أن أدمر المقام وإنما أود الاستفادة من خصائصه فبإمكاننا أن نرى المقام بطريقة مختلفة عما تعودنا عليه.
الموسيقا أبعد من الأدب، ليس وظيفتها أن تعبر، فالفن يحمل حالة من الإيهام ولا يوجد شيء ثابت.
وعن إشراك الطفل في العمل قال الموسيقي حسان طه: ربطنا الطفل بالموسيقا لأنه يشكل مستقبل العلاقة السورية الأوروبية، كما سيتحول العمل إلى CD يوزع على المدارس.
راجي سركيس صاحب الفكرة وعازف البيانو أكد في المؤتمر الصحفي أن الطفل جزء من مستقبلنا فقال: الطفل في مشروعنا معارض تماما للحالة السائدة في البلد وهي التسول عليه، فهناك الكثير من المشاريع التي تقحم الطفل إقحاما أو تضعه كواجهة لتقديم مشاريعها، فهذا المشروع مختلف تماماً لأنه يؤمن بالطفل كقيمة، وبقدرته على فهم نفسه والموسيقا، فالطفل جزء أساسي من المشروع وله دور فيه... العمل متكامل ومشترك بين الموسيقيين الشرقيين والغربيين والأطفال، فيجب على الطفل السوري أن يفهمه، وأن يعي أنه يجب على الجميع التعاون لبناء العالم والمستقبل، فلسنا الوحيدين على الساحة ولابد من فهم الآخر والسعي ليفهمنا الآخر!
يضيف الأستاذ راجي: قدمت الفكرة في المفوضية الأوروبية ولكن المساحة الموسيقية التي وضعها الأستاذ حسان طه تجاوزتها حيث دخل للميثالوجيا، كما كتب الأستاذ ثائر زعزوع الكلمات على أساس استبيان يحوي عشرين سؤالاً موجهاً للطفل حول علاقته بالبيئة والمحيط والأسرة وأصدقائه المقربين والغريب لأننا نهدف فيما بعد لأن يقف الأطفال السوريون ليشاركوا أطفالا آخرين فرنسيين وصينيين وكنديين وغيرهم لتجمعهم الموسيقا، فنحن نسعى لأن يكون للطفل دور فاعل في صناعة القرار الذي يمس مستقبله ومستقبل الآخرين.
أينما نذهب نصطدم بأناس وأصحاب قرار عندما نقدم لهم فكرة مشروع ثقافي موسيقي فإما يستهجنون الموضوع، أو يحاربونه، أو لا يلقى الدعم اللازم.
عندما نجمع آلات شرقية وغربية نكون قد تجاوزنا كل السياسات ضمن عمل سوري خالص، فلابد من اقتحام المسارح العالمية بموسيقا سورية من تأليف موسيقي سوري. فنحن نقدم صورة سورية أكاديمية خالصة.
وفي لقاء خاص مع صحيفة «الوطن» قال قائد الأوركسترا ميساك باغبودريان: هذا العمل يشكل تحدياً بالنسبة لي، فوجود آلات شرقية تعتبر آلات أوركسترالية وإيجاد تناغم بينها وبين آلات أوركسترالية أخرى، وتوازن الأصوات وطريقة العزف كل ذلك نوع من أنواع التحدي، وإلى أي حد يمكن تقريبها من بعض وخلق مجموعة واحدة من هذا الموزاييك، فهي عبارة عن لوحة من أحجار متنوعة يجب صفها بطريقة منظمة لتبدو لوحة جميلة.
وكيف يمكن خلق التناغم بين الإيقاع الغربي والشرقي، وأنا ضد هذه التسميات ولكن بالنهاية هي آلة سورية تعزف مقابل آلة إيقاعية فيوجد شيء من الصعوبة. وعن مصطلح موسيقا سورية قال: الموسيقا لها نكهة وليس لها هوية، كل شعوب العالم لها موسيقا شعبية وتحتفظ بها وتقدمها، ونحن كسوريين لنا موسيقانا الشعبية، ولكن لا نستطيع الفصل بين الموسيقا الشعبية والموسيقا الأكاديمية والموسيقا المنطقية والموسيقا العالمية التي يجب أن نشارك بها بلغة يفهمها كل العالم.
أثناء البروفات والتحضير للحفل التقت «الوطن» مجموعة من الموسيقيين المشاركين:
ديمة موازيني عازفة قانون قالت عن هذه التجربة الجديدة: نقدم آلة القانون بأسلوب مختلف عن الأسلوب الشرقي المتعارف عليه، فالعمل فيه شيء إنساني أكثر من كونه عملاً موسيقياً، يهدف إلى تقديم ميثالوجيا عن فكرة الشرق والغرب والتلاقي بينهما، فيجب ألا تكون الآلات شرقية بحتة لأننا نعبر عن بداية خلق الشرق بالغرب.
صحيح أن آلة القانون شرقية إلا أنني أستطيع أن أوظفها بأسلوب يتوافق مع رؤية المؤلف، فالعمل فيه فكر عميق يحتاج إلى فهم كافٍ من العازف.
كنان ادناوي عازف عود قال: هذه ليست المرة الأولى التي تضع فيها آلة العود مع الأوركسترا ولكن تجربة موسيقا معاصرة توجد فيها آلة العود بشكل أساسي نادرة، ولكن العازف المحترف يستطيع أن يعزف أي نمط من الموسيقا وأن يطوع آلته بالشكل الذي يريده ويتطلبه العمل.
يذكر أن جمعية النهضة السورية جمعية أهلية غير حكومية أعضاؤها من المهتمين بالفن والمؤمنين بقدرته على النهوض بالإنسان والمجتمع، تشجع كل عمل مميز يعرض على خشبة المسرح من تمثيل ورقص، وغناء وموسيقا، تهدف للتعاون مع الجهات المحلية والعربية والدولية ذات الاهتمام المشترك.
قالت إيدث وارتون: (هناك طريقتان لانتشار الضوء، إما أن تكون الشمعة ذاتها أو المرآة التي تعكس الضوء) من هذا القول انطلقت شركة تكوين لربط وإقامة علاقة وثيقة ومتبادلة بين هذين المفهومين، حيث تأسست لرعاية ودعم الفنانين الشباب، وإيجاد البيئة الملائمة لهم من خلال مجموعة متنوعة ومتعددة من العروض الفنية سواء الحفلات الموسيقية، أو المعارض، أو العروض أو الفعاليات المختلفة، أو مواد الطباعة أو حتى ملكية الأقراص الليزرية.
دارين صالح
المصدر: الوطن السورية
إضافة تعليق جديد