غسان الرفاعي: من يوميات مثقف في المهجر
كم كانت دهشتي كبيرة، حينما وقعت عيناي عليه الأسبوع الماضي، في مقهى غير بعيد، من معهد العالم العربي في باريس. لقد انقطعت أخباره منذ 15 عاماً تقريباً، ولم أعد أعلم شيئاً عن تحركاته، وشاقني أن أتعرف إلى تجاربه و (معاناته)، بعد هذا الغياب الطويل، فرح برؤيتي، وأعلمني أنه يكتب اليوم بالفرنسية، وأخرج من حقيبة يده مجموعة من أوراق قدمها إليّ قائلاً:
(هذه يومياتي الأخيرة بالفرنسية، اقرأها، وستعرف الكثير عني).
1
يوم الثلاثاء
بدأت تسكعي المكوكي في الشوارع والأزقة، أحملق في واجهات المحلات التجارية، وقد تفتحت عندي شهية الشراء، ولكنني أكسل من أن أدخل وأنتقي، وأشتري. أتفحص الإعلانات الكبيرة عن الأفلام الجديدة، فأتمنى أن أغوص في صدر الممثلات الساحرات، ولكنني زاهد في دخول الصالة، وفي مشاهدة أي فيلم، تمرّ أمامي امرأة جميلة، وهي ترتدي ثياباً مختصرة، فيخطر على بالي أن أطاردها، ولكنني أعرف أنها لن تنظر إليّ ولن تكترث بي، وأقف أمام مكتبة في زاوية الشارع، وأتنهد: (يا الله أين هم كتّاب هذه الكتب كلها؟).
ومن بعيد يخيل إليّ أنني رأيت أحد الأصدقاء والمعارف، فأقرر أن أدير رأسي بحذر وأنتقل إلى الرصيف الآخر، وأنا مصرّ على عدم رؤيته. وفجأة يطوقني ثلاثة من رجال الأمن على المنعطف، فأشعر وكأن القبض عليّ ضرورة أمنية للمحافظة على السلامة الاجتماعية، ويطلب مني أحد الرجال الثلاثة بفظاظة:
أوراقك
وأبحث في جيوبي عن كل الأوراق التي بحوزتي، وأخرجها، وأضعها بين يدي الرجل، ويقلب الرجل هذه الأوراق بين يديه، وينظر إليّ بشيء من الريبة، ليقول لي:
إذاً، أنت من هذا الجزء من العالم، أوراقك نظامية، ولكن ماذا تعمل؟.
التفت إلى يمين ويسار، وأقول، وكأنني أفشي سراً حربياً خطيراً:
أنا كاتب!
وينتحي بي الرجال الثلاثة جانباً، ويخرج أحدهم صوراً من حقيبته ويقول لي:
انظر إلى هذه الصور، هل تعرف أصحابها؟.
الأجواء متوترة منذ الدعوة إلى تحديد (الهوية الوطنية) والكراهية ضد مواطني (ذلك الجزء من العالم) لا تطاق وكل الناس معرضون للتفتيش.
المطلوب من الجميع أن يصبحوا (مخبرين)، وأن يساعدوا السلطة في القبض على الجناة.
(كلا، لا اعرف أصحابها!).
إذا غيرت رأيك، اتصل بالرقم، تنتظرك مفاجأة!
وأشعر أنني رخيص، لزج، اقرب ما أكون إلى صندوق قمامة. لقد أقنعت نفسي، بالسكين والإزميل، أن اختياري للمنفى هو تمسك بهويتي واستقلالي، وكرامتي، ولقد رفضت أن أكون مزماراً، واعترف أنني غير مؤهل للنضال، ولا للشهادة، وها أنا مستباح، وعلى قارعة الطريق، ويُطلب مني أن أكون (مخبراً) كيما اثبت أنني متحضر، وان تهمة الإرهاب لا تطولني، وأكتشف، وكأنني في مأتم، أنني وحيد، وان كلماتي تتساقط في فراغ، وان الأحداث (تُصنع) دون علمي، ورغماً عني لاغتيالي، إن لم تكن في جسدي، ففي سويداء قلبي.
ذات يوم، لم تكن الكلمة أكثر من شهقة بين شفتين، حبة من قلب، لا تفترسها أحراش الآلات الطابعة، ولا أدغال الحديد، ولكنها كانت تخترق الجدران، وتستقر في الأعماق، لتصوغ الإنسان، قالها (سقراط) في براءة عنيدة، فسرت كالنار في الهشيم، فجرت الكبرياء والأمل، ورجمت المزورين والضالين ولكن الكلمة اليوم، على الرغم من معجزة التكنولوجيا، محاصرة متسخة، مزيفة تدخل كل بيت، ولكنها تبقى خارج ساكنيه، في متناول الجميع، ولكنها مرفوضة، شأنها شأن المومس يرغب الجميع في وصالها، لكنهم لا يصدقون متى يطردونها، ويتخلصون منها..
2
يوم الخميس
المقهى يفيض على الرصيف، ويكاد يلتهم المارة على قارعة الطريق، والملتصقون بالكراسي الخشبية المقشرة متعبون حتى الإنهاك، يخيل إليك أنهم يبكون حين يبتسمون وأنهم يولولون حين يتحدثون. وفجأة تتوقف مغنية سليطة عن الغناء الرتيب ويعلن مذيع بلهجة عربية جوفاء: (لا تكتئبوا، فنحن سنتكفل بكم، غادروا هذا العالم بارتياح، فنحن ننقلكم إلى الوطن، بتوابيت لائقة، وسنؤمن لكم القبر الأنيق بأسعار زهيدة!). ويتوقف الجميع عن الثرثرة والتثاؤب، ويرتسم على وجوههم هلع ممزوج باللهفة، ويتأوهُ كهل مجدور الوجه ويقول: (أخيراً فعلوها، أولاد الزنى، افتتحوا مكاتب لدفن الموتى في المهجر!) ويرد عليه رجل نصف يمضغ سيجارته بقرف: (أخيراً أصبح لنا توابيت وطنية!) ويوزع النادل ذو البطن المنتفخ الشاي المنقوع، ويرتفع صوت السيارات العابرة بسرعة في الشارع، ويتعالى دعاء خافت: (الحمد لله).
3
يوم الأحد
حينما تترجرج الأحداث ويستعصي فهمها على المراقب المتلهف، وحينما تتلاحق التفسيرات الواهنة، فلا يعرف المتابع، هل هي تنازلات مموهة، أم (فهلوية شيطانية)، تحيّر الخصم، لا يبقى لأمثالنا من المثقفين إلا عزاء واحد، هو التمسك بالحكمة الصينية الخالدة: (لا أرى، لا أسمع، لا أنطق!).
لقد داهمتنا مفاجآت محلية وإقليمية ودولية افقدتنا توازننا، حيث لم نعد قادرين على استجلاء ما ينتظرنا، بيولوجياً، ولا اجتماعياً ولا سياسياً.
ما يثقل علينا هو إعياء نفس ممزوج بالخوف، لا الخوف من هذا الأمر أو ذاك، وإنما الخوف من كل شيء، و لاشيء معاً، لم يعد للأحداث، صغيرها وكبيرها، بُعد أو حجم، وإنما هي فقاعات من الصابون تتشكل بلا سبب، وتتفجر بلا سبب، ولم يعد للأشخاص قسمات أو ثقالة، إنهم هياكل عظمية دميمة، تظهر من حيث لا نعرف، وتتلاشى من حيث لا ندري، نجلس في مكاتبنا، فيخيل إلينا أن السقف قد تشقق، وان شقفه تتساقط فوق رؤوسنا، ونمشي في الشوارع، فيخيل إلينا أن البلاط قد انخلع، وأننا سقطنا في حفرة ليس لها قعر!.
4
يوم الجمعة
كانت لنا (فراديس ساحرة) نحتها لنا متمردون كبار، اقنعتنا أن هذا العالم (الظالم الموبوء بالشرور والفواجع) لا بد أن يزول، وكان يغمرنا يقين بأن العدالة والمساواة والحرية، سوف تنتصر، آجلاً أم عاجلاً، وحينما اكتشفنا، بعد أن قاربنا على الرحيل، أن هذه الفراديس الساحرة هي (فقاقيع خادعة)، كالتي يتحدث عنها (دستوفسكي)، لم نملك الجرأة على الاعتراف بالهزيمة السوداء، وبقينا نحتفظ بشيء من العناد الطفولي.
الفضاء العربي (يجعجع دون أن يطحن): الأبناء المعاقون يصادرون الآباء المترهلين، والمتربصون الطامعون يخططون للتخلص من الحكام الطغاة، والأشقاء الألداء يخفون الخناجر تحت المعاطف، والحنان الحقود ينتقل من مدينة إلى أخرى. أما الفضاء غير العربي، فيزعم أن هناك (طحناً دون جعجعة): مخططات لنهب ما تحت الأرض وفوقها، وخرائط مرسومة للتقسيم والتشطير، وبرامج للتنمية والحصار، والإنسان العربي (شاهد زور)، يراقب بتوجع، يتابع مهرجانات النفاق، ونداءات الإنقاذ، وكرنفالات الفرح المزور، فلا يفتح فماً، ولا يحرك ساكناً.
5
يوم الاثنين
قد يتعذر على الإنسان العربي (السوي) أن يستورد هموماً خارجية، وهو غارق حتى أذنيه، في هموم الوطنية، إنه يتعاطف مع معاناة المعذبين في كل مكان، ولكنه يظل مستنقعاً في واقعه، تلامسه العولمة، ولكنها لا تفجر فيه أي تحرك من الداخل، يتعايش مع الأحداث التي تجري في العالم، ولكنه لا يتحرك إلا (كسائح ثقافي). الوطن، بالنسبة له ليس طربوشاً فولكلورياً، يعتمر به في الكرنفالات والاحتشادات، وليس عباءة يستر بها (بثوره)، وإنما أزميل يحفر في تضاريس، وخنجر يغوص داخله. حينما يستمع إلى أغنية (ايدث بياف) التي تقول فيها: (لشدة ما كرهتك يا وطني، لكنني لن أتدثر إلا بلحافك!)، ويستبد به الوجع، ويتمنى لو قذفته عصا سحرية إلى حي عتيق في عاصمة بلاده، يستنشق فيه رائحة الهيل والكمون.
6
يوم الجمعة
يطرأ على أحدنا، في لحظات نادرة من التوهج والاعتدال، وسيطرة (البراغماتية) أن يستجيب لدواعي حسن النيّة وإغراء العقل، وإذ ذاك يميل إلى تفسير الأحداث دون توتر متراكم، وتعصب عفوي، بل يتوصل إلى الاعتراف، بكل طيبة وبراءة، بأن ما يجري هو من صنع أيدينا، وأنه من التعسف إلقاء اللوم على (صنّاع المؤامرات) وأشرار النظام العالمي الجديد، وأن الأمر لا يعدو أن يكون تهرباً من المواجهة، وتقاعساً عن تحمل المسؤولية، ثم نكتشف، ولو بعد فوات الأوان، أننا ضحية خدعة، وفريسة فخ نصب لنا بعناية وخبث نادرين.
د. غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد