باتريك دوفيل: أريد أن أستعمل وأستفيد من كل الأنواع الأدبية
لو نظرنا إلى غالبية لوائح جوائز الخريف الأدبية الفرنسية، التي سيبدأ إعلان نتائجها مع نهاية الشهر الحالي، لوجدنا أن غالبيتها تتضمن رواية «طاعون وكوليرا» لباتريك دوفيل (منشورات لوسوي) التي حظيت باهتمام غالبية النقاد والقراء منذ صدورها من أقل من شهرين. وهي عبر شخصية ألكسندر يرسين، العالم الفرنسي، الذي اكتشف دواء الطاعون، يروي الكاتب بعضاً من السياسية الفرنسية في فيتنام. ربما كان هذا المشروع السياسي حاضرا في رواياته الأخيرة، إذ شكلت عددا من رواياته الأخيرة محاولة لقراءة طوباويات أميركا الوسطى واللاتينية.
دوفيل، الذي سيقدم كتابه هذا في معرض الكتاب الفرنكوفوني في بيروت، أجاب عبر البريد الالكتروني حول بعض الأسئلة التي توجهنا بها إليه.
من قرأ رواياتك، لا بدّ من أن يتوقف عند «حياة طاهرة»، التي صدرت قبل روايتيك الأخيرتين، لسبب أن كتاباتك ومناخاتك تغيرت كليّا، كأن ثمة روائياً آخر حلّ مكان باتريك دوفيل الذي اكتشفناه مع تلك الكتب التي صدرت عن منشورات «مينوي». هل يمكن الحديث عن كتابة أخرى الآن؟
^ استغرق الأمر مني سنين عديدة كي أقوم بهذه النقلة. لأقل بداية، إني في العام 1993، أقمت لفترة في كوبا، كنا نعتقد أن النظام هناك سينهار بعد التغيرات الجذرية التي شهدناها في بداية التسعينيات. عدت من كوبا، برواية «المرأة المثالية» التي نجد فيها، ولو لماماً هذين المناخين: الغنى الباريسي والفقر الهافاني الذي لا يحتمل. فقر زمن السلم. لكن لم أغص فعلا في هذين الفضاءين، على الرغم من أني في ذلك العام بدأت مشروعي الكتابي، الذي قادني بعد عقود إلى هذه الرواية التي تشير إليها. بعد مرحلة كوبا، تجولت كثيرا في تلك القارة، تعلمت الاسبانية، ومن ثم ذهبت إلى أميركا الوسطى، للقاء الساندنيين، في أي حال، تبدأ «حياة طاهرة» في شهر شباط من عام 1996، أي في السنة التي التقيت فيها الساندنيين. تطلب الأمر مني أكثر من 6 سنوات من البحث واللقاءات والأحاديث والترجمات والقراءات، كي أدخل أكثر في تلك الأجواء، ووجدت أنني أقف على رأس مشروع، لم أكن اعرف حقا ما أقوم به. ألوف الأوراق التي قرأتها، لغة جديدة أتحدثها، حياة سياسية جديدة وجدت أني انخرطت فيها بعد أن أصبحت صديقا للساندنيين. وسألت نفسي عما ينبغي القيام بذلك كله. في العام 1999، كتبت رواية مختلفة إذ يمكن القول إني كنت مدينا بكتابتها لجيروم لندن، صاحب منشورات مينوي، فنشرت العام 2000 كتاب «هذان الاثنان»، وبعدها تفرغت لمشروعي هذا.
هل يمكنني القول إن رواياتك الخمس الأولى التي صدرت عن مينوي، كانت استعدادا للانتقال إلى مرحلة أخرى، وبخاصة أنك غيرت الناشر أيضا، إذ انتقلت للنشر عن «لوسوي»؟
^ ليس إلى هذه الدرجة وإن كنت لا أخفيك بأن ما كنت أكتبه لم يكن يشعرني بالاكتفاء، أقصد كنت أحس بأن شيئا ينقصني، بمعنى أني لم أكتب بعد ما أريده فعلا، أي كنت أرغب في الخروج من هذا الأفق الذي أحس به ضيقا. في أي حال، لم تأت اختلافاتي في الأسلوب دفعة واحدة، بل جاءت تدريجاً، على الرغم من اعتباري أن ثمة خمولا أصابني، لأني بدأت التفكير بمشروع هذا الكتاب العام 1993، ولم أصدره إلا العام 2004. وعمليا عملت ست سنوات عليه. من هنا، سأعتبر أن أعمالي السابقة كانت بمثابة روايات تجريبية، جربت فيها الشكل والمضمون.
خليفة التنويريين
بهذا المعنى كيف تحدد اليوم مشروعك الكتابي، الذي بدأ مع «حياة طاهرة»، و«كمبوتشيا» واليوم مع «طاعون وكوليرا»؟
^ أعتقد أن كلّ التنويعات الماضية على الكتابة الروائية كان بمثابة حلم ما، أو رغبة، في أن أصل إلى ما وصلت إليه حاليا: أن استعمل وأستفيد من كل الأنواع الأدبية في الوقت عينه: السيرة الذاتية، والسيرة بشكل عام، السرد التاريخي، فن الرسائل، اليوميات، أدب الرحلات، حتى الحوار الصحافي الخ.. في العمق، كنت أرغب في أن أشعر بالمتعة المطلقة في أن ألعب بين هذه العوالم كلّها. ألعاب جميلة، أظن، على الرغم من أنها كلفتني ست سنوات لأصل إلى بدايتها، لا إلى آخرها، حتى وإن كانت طويلة، أقصد هذه الرحلة.
بأيّ معنى هي رحلة طويلة؟
^ لا أعتقد أن أحدا يمضي اليوم أكثر من ثلاث سنوات، وهو يكتب كتابا ما، في أي حال، مع «كمبوتشيا»، عرفت شيئا مشابها، إذ قرأت من أجل كتابتها مئات الكتب، والتقيت بعشرات الأشخاص، لكني قررت أن لا تتجاوز فترة العمل ثلاث سنوات، وهذا ما حصل بالفعل، إذ أنجزته خلال هذه المدة.
لا أعرف لماذا أشعر، بأن ثمة رغبة، في نزع كلّ تخيل في الكتابة عندك اليوم؟
^ سأوافق على هذا الكلام، بمعنى أني أعتقد أني لو جنحت إلى المتخيّل في كتابات من هذا النوع، فإن ذلك لا بدّ من أن يقود إلى زعزعة القارئ في سعيه لمعرفة الحقيقة، معرفة دقة الكلام الذي أكتبه وصحته. من هنا، أسمي هذا «ما وراء المتخيل»، بمعنى أنه الحقيقة التي تقود إلى المتخيل.
وهذه الكتابة قادتك أيضا إلى مناطق جغرافية بعيدا عن فرنسا؟
^ لأقل هو اقتراحي الروائي والكتابي، الذي أعمل عليه من سنين. كل كتبي الأخيرة تتجه نحو مدارات خط الاستواء. ربما فكرتي الحقيقية تكمن في أن اظهر كيف أن الأحلام والطوباويات العائدة للتقدم والازدهار والسياسة والعلم، لا تختلف في كلّ أمكنة العالم بمعنى أنها مرتبطة بالفعل السياسي.
لكنك تقول «يا لقذارة السياسة» في عملك الأخير، «طاعون وكوليرا» الصادر حديثا؟
^ لست أنا، بل هو «يرسين»، الشخصية الرئيسة في الرواية.
سأقاطعك، فقط للتوضيح، «يرسين» هو ألكسندر يرسين العالم الفرنسي الذي اكتشف دواء الطاعون.
^ بالضبط. لا أوافقه على ذلك، ما أريده فعلا في هذه الرواية، وعلى الرغم من فضائها العلمي، إذا جاز القول، هو التفكير بالأزمات الثلاث التي عرفناها بين ألمانيا وفرنسا، كما التفكير بالحربين العالميتين.
وأيضا تجعل منه شخصا موسوعيا، أشبه بأولئك الذين عرفناهم في «عصر الأنوار».
^ أعتقد بمعنى ما أنه خليفة فعلي لهؤلاء التنويريين، إذ إنه ينتمي إلى آخر سلالاتهم.
وهل يعنيك الأمر بمعنى أن تكون مثلهم، أي أن تمتلك هذه الحشرية التي قادتهم إلى معرفة متنوعة ومتشعبة؟
^ تعنيني لكوني روائيا يهتم بالكثير من الأشياء، ويعيد كتابتها على طريقته في كتبه. وأقول لك إني اتفقت مع معهد باستور الذي سمح لي بالاطلاع على رسائله كي أدخل أكثر إلى عمق تفكيره وحياته الخاصة. لكني لم اهتم بها كشخص يرغب في كتابة سيرته الشخصية، بل فقط من أجل التقاط بعض مناخات ذلك الزمن وتفاصيله. ربما لو جنحت أكثر إلى سيرته لجاء الأمر بمثابة كارثة، في الكتابة طبعا.
قلت مرة، إنك بعد انتهائك من «سلسلتك» حول مدارات الاستواء، ستعود للحديث عن «القارة العجوز»، هل تشكل هذه الرواية بداية هذه المرحلة؟
^ ربما، بمعنى من المعاني، وإن كان هذا الكتاب يدور في فيتنام، حيث عاش «يرسين»، لا تنسى أنها كانت تدعى الهند الصينية، وكان الفرنسيون هناك لفترة من الزمن. لكن مشروعي «الفرنسي» لم يبدأ بعد.
أجرى الحوار: إسكندر حبش
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد