الحريري وميقاتي المستثمران اللبنانيان الوحيدان في تركيا
أي خطوة ستقوم بها السلطات التركية بعد حادثة خطف الطيارَين التركيين في لبنان؟ السؤال ينطلق من خلفية ما قيل وتردّد همساً وعلناً عن تداعيات أي خطوة على الاقتصاد اللبناني. انبرى الكثير من السياسيين بكامل ثقلهم وعتادهم، يروّجون للأثر «العظيم» الذي سيتركه مثل هذا القرار على لبنان. وقد توسّع الترويج ليصبح نوعاً من «التذلّل» نحو الأتراك للحفاظ على علاقاتهم مع لبنان... هذا المشهد تنكره كل الوقائع التجارية والسياحية والاستثمارية بين لبنان وتركيا. هذه الوقائع لو كان لها أن تنطق لقالت للأتراك: «ارحلوا، أنتم خاسرون».
قبل أيام اختطفت مجموعة لبنانية مجهولة طيارين تركيين. أثار الأمر ضجّة كبيرة. كالعادة، كان الانقسام اللبناني حاضراً في هذه الحادثة، نظراً إلى الدور التركي في سوريا. المسألة ليس لها أي خلفية مالية أو اقتصادية، لكن الحديث فيها يثير مسائل من هذا النوع. وحدهم السياسيون انبروا للتحذير من تداعيات الخطف على العلاقات الاقتصادية بين البلدين. وظّفوا تداعيات عملية الخطف للتلميح والتأكيد أن الخاطفين هم «خصومهم» الذين يقومون بأعمال مضرّة بالاقتصاد. طبعاً لا أحد يملك الجرأة لتوجيه اتهام مباشر. لعبة السياسة أخذت الأتراك أيضاً في اتجاه توسيط إيران للإفراج عن الطيارين المخطوفين في لبنان... لعبة السياسة نفسها هي التي مسحت عقول البعض في لبنان ودفعتهم نحو إطلاق التحذيرات من كل حدب وصوب عن مخاطر قطع علاقات بين لبنان وتركيا. لعلّ هؤلاء السياسيين لم يطلعوا على هذه العلاقات ولا على من يستفيد منها. أيضاً ليس لهؤلاء أي علم بأنواع هذه العلاقات وأثرها على الاقتصاد اللبناني، أصلاً لا يهتم هؤلاء بالاقتصاد إلا بمقدار الرشوة في حساباتهم المصرفية وأملاكهم العقارية.
يتحمّل كل زعماء لبنان الذين شاركوا في حكومة الرئيس سعد الحريري مسؤولية نتائج العلاقات الاقتصادية الرسمية بين لبنان تركيا. هذه الحكومة التي تألفت في عام 9/11/2009 وانتهت في 13/6/2011 وقّعت في نهاية عام 2010 اتفاقية تجارة حرّة بين البلدين. قبلها بوقت قصير كان لبنان قد وقّع مع الأتراك اتفاقية إلغاء تأشيرات الدخول إلى البلدين. وهذان التطوّران كانا محط إجماع سياسي في لبنان وترجمة عملية لقصّة التباعد التركي ــ الإسرائيلي. هكذا كانت ضربة البداية. كانت النظرة نحو تركيا هي نظرة نحو حليف سياسي، فلم تتضمن أي رؤية لمصالح لبنان الوطنية. يمكن الاستدلال بسهولة على دليل يوثق هذا الاستنتاج. ففي نهاية عام 2012، أي بعد نحو سنتين على توقيع اتفاقية التجارة الحرّة بين البلدين ازدادت قيمة السلع الواردة من تركيا إلى لبنان بنسبة 47%، أو ما قيمته 312.4 مليون دولار، مقارنة مع نهاية عام 2009. أما الصادرات اللبنانية إلى تركيا فزادت بنسبة 5%، أو ما قيمته 7.7 ملايين دولار.
وعلى صعيد السياحة، لم تزد أعداد السياح الأتراك الذين أتوا إلى لبنان على 10 آلاف سائح في نهاية 2012، في مقابل قيام أكثر من 150 ألف لبناني زيارة تركيا خلال عام 2012.
الواضح أن ميزان التبادل السياحي والتجاري بين لبنان وتركيا لم يكن يوماً لمصلحة لبنان، وهذا الأمر حذّرت منه الجمعيات الصناعية والزراعية التي اعترضت على توقيع اتفاقية تجارة حرّة مع تركيا. هذه الجمعيات كانت ترى في الأتراك «مارداً» يمكنه «طحن» المصانع اللبنانية و«سحق» المنتجات الزراعية. فالمعروف أن تركيا تدعم مصانعها التي تنتج سلعاً ذات مواصفات مقبولة من الاتحاد الأوروبي، في مقابل صناعة لبنانية مهشّمة ومكشوفة على المخاطر وبلا أي حماية رسمية.
لكن ضغوط المزارعين والتجار لم تصل إلى حدّ منع توقيع اتفاقية تجارة حرة مع تركيا. ورغم مقاطعة وزير الاقتصاد والتجارة في حينه، محمد الصفدي، الزيارة لتركيا على خلفية ضغوط الصناعيين والزراعيين، إلا أن رئيس الحكومة في وقتها، سعد الحريري، أصرّ على توقيع الاتفاقية وفعل فعلته.
أين موقع التبادل الاستثماري بين تركيا ولبنان من هذه المعادلة؟ المعطيات المتداولة بين رجال الأعمال وفي غرف التجارة والصناعة والزراعة في لبنان تؤكد أن الاستثمارين الوحيدين للبنانيين في تركيا يعود أحدهما إلى الرئيس سعد الحريري من خلال ملكيته لشركة الاتصالات التركية، وهي الأسهم التي كان يتفاوض لبيعها للقطريين خلال الفترة الماضية. أما الاستثمار الثاني، وإن كانت تطغى عليه صبغة القطاع الخاص أكثر من صبغة السياسة، إلا أن ملكيته تعود إلى الرئيس نجيب ميقاتي من خلال ملكيته لحصّة كبيرة في بنك عوده الذي أسس مصرف «أوديا بنك» في تركيا.
وبحسب الخبير في الشؤون التركية محمد نور الدين، إن أي خطوة تركية في اتجاه قطع العلاقات الاقتصادية مع لبنان «هو عمل غبي». ويضيف نور الدين أن «الأتراك هم خاسرون حكماً في هذه المعادلة، وخسارتهم ليست في التبادل التجاري والسياحي فقط، بل هي أكبر من ذلك بكثير؛ لأن خسارة لبنان تأتي بعد خسائر كبيرة تعرّض لها الأتراك في المنطقة ابتداءً من سوريا والأردن ومصر والسعودية وإيران... أي قرار سلبي باتجاه لبنان هو قرار غير حكيم».
طبعاً، بإمكان لبنان أن يستغني عن البضائع التركية مهما كانت رخيصة. ووفق نور الدين، إن قدرة اللبنانيين على استيراد البضائع من الصين كبيرة، ولديهم قدرة على استيراد حاجاتهم من السلع من أي مكان في العالم وبأسعار رخيصة أيضاً. «في النهاية إن خسارة السوق اللبنانية ستحملها تركيا؛ لأننا نحن من نضخ مال في اقتصادهم والميزان لمصلحتهم لا لمصلحتنا. ارحلوا. الخسارة الوحيدة ستلحق بهؤلاء الموالين لتركيا»، يقول نور الدين.
غير أن الخسارة التركية التي يتحدث عنها نور الدين هي خسارة من نوع استراتيجي ولا تتوقف على بعض السلع؛ «فعندما قرّرت تركيا الانخراط في قوات اليونيفل العاملة في لبنان، كانت تبحث عن موطئ قدم لها في المنطقة العربية، على اعتبار أن لبنان بلد انفتاح يسهل الدخول منه إلى باقي الدول العربية، وبانسحابها من هذه القوات ستخسر موطئ قدمها. وإن قرّرت تركيا أن تغلق مركزها الثقافي في لبنان فهي ستخسر ركيزة استراتيجية ثانية، فضلاً عن أن خسارتها أياً من الركائز الاقتصادية والسياحية في هذا المجال تصبّ في الاتجاه نفسه، أي خسارة ركائز الحضور في المنطقة العربية».
استثمار تركي بـ 392 مليون دولار
كان لافتاً توقيت وصول الباخرة التركية «أورهان بيك» إلى لبنان واستعدادها للعمل في لبنان. هذه الباخرة هي الاستثمار الثاني للقطاع الخاص التركي في لبنان بعد الباخرة الأولى «فاطمة غول سلطان» التي وصلت إلى لبنان منذ فترة. قيمة هذا الاستثمار بحسب العقد الموقع مع وزارة الطاقة اللبنانية تبلغ 392.6 مليون دولار مقابل إنتاج الطاقة الكهربائية لمدة 36 شهراً. التجربة التركية ليست مشجعة جداً، نظراً إلى المشاكل التي حصلت مع الباخرة الأولى وتوقفها عن إنتاج الكهرباء لمدّة تزيد على 40 يوماً، وتأخّر الباخرة الثانية عن موعد وصولها في 27 حزيران لفترة تصل إلى 52 يوماً. فهذا الأمر رتّب أعباءً كبيرة على لبنان ومخطط تطوير الكهرباء.
محمد وهبة
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد