150 عاماً على أول مدرسة وطنية علمانية
لاستحضار مدرسة المعلم بطرس البستاني الوطنية في ذكرى تأسيسها المائة والخمسين مغزى كبير. فالمشروع التنويري الذي قاده هذا الرائد النهضوي اواسط القرن التاسع عشر، وكانت المدرسة الوطنية العلمانية احد ابرز رموزه، اصيب بالاحباط والخذلان. الرابطة الوطنية القومية التي قامت عليها هذه المدرسة تقدمت عليها العصبيات الطائفية والقبلية والعشائرية، والمرأة التي دعا البستاني في «خطاب في تعليم النساء» الى تعليمها والارتقاء بها لتصبح «عضواً يليق بجماعة متمدنة» هي اليوم الاكثر امية في عالمنا المعاصر. وعلى النقيض من شعار مدرسته «حب الوطن من الايمان» حلت مدارس وجامعات الطوائف والمذاهب التي تقدم انتماءاتها العصبوية على الانتماء الوطني والقومي.
عندما اسس البستاني مدرسته الوطنية العام 1863 في بيروت، كان الشرق العربي يغط في ظلام رهيب، فالسكان المتواكلون الذين طحنهم الاستبداد كما وصفهم المستشرق الروسي ز.ل. ليفين، كانوا اميين بالكامل تقريباً، وكانت معرفة القراءة والكتابة في الريف السوري، ظاهرة شبه معدومة، وحتى بين سكان المدن، فان الملمين بالقراءة والكتابة كانت ظاهرة نادرة للغاية. ويذكر الرحالة الالماني اوبنهايم الذي زار سوريا العام 1889 انه حتى في بيروت، وهي اكثر مدن البلاد تقدماً يصعب جداً الحصول على اية مصنفات في ما خلا المصنفات الدينية.
في هذا الواقع الثقافي المتخلف انبرى البستاني لتأسيس المدرسة الوطنية الاولى في محلة زقاق البلاط في بيروت على اساس قومي لا طائفي، فكانت كما يقول ليفين، حدثاً كبيراً في حياة سوريا الاجتماعية، وكان التدريس فيها على نمط حديث، فدرست العلوم الطبيعية الى جانب العلوم الفيلولوجية. وقد اختار لها مؤسسها نخبة من المدرسين عرف منهم الشيخ يوسف الاسير والشيخ احمد عباس الازهري والشيخ خطار الدحداح وشاهين سركيس وناصيف اليازجي وابراهيم اليازجي وشاكر الخوري بالاضافة الى المعلم بطرس البستاني وابنه سليم وابنته سارة.
مارس المعلم بطرس التعليم قبل المدرسة الوطنية، في مدرسة عين ورقة وقام بإعداد المنهج الدراسي للمدرسة الداودية في عبيه على اسس عصرية، ايماناً منه بان المدارس الحديثة المناهج هي من اهم الوسائل العصرية للنهوض بالمجتمع والسير به نحو التمدن. وقد وضع للمدرسة الوطنية مقاصد ذكرها في مجلته «الجنان» واولها: ان المدرسة الوطنية تقبل تلامذة من جميع الطوائف والملل والاجناس من دون ان تتعرض لمذاهبهم الخصوصية او تجبرهم على اتباع مذهب غير مذهب والديهم. كما تستخدم معلمين من مذاهب واجناس مختلفة ناظرة الى كفاءتهم واقتدارهم من دون التفات الى معتقداتهم الخصوصية. وثانيها: تنشيط تعليم اللغة العربية، لغة الوطن التي يتوقف على اتقانها نجاح الطلبة في حقول المعرفة كافة. وثالثها: الاجتهاد في تنمية الشعور بمحبة الوطن في قلوب تلامذتها وغرس مبادئ الالفة والاتحاد في افئدتهم ليكونوا ذوي غيرة على وطنهم. ورابعها: المحافظة على المشرب الوطني بحيث لا يكون المتعلمون فيها كغرباء في وطنهم، وكي لا تفوت على ابناء الوطن الفوائد المرجوة من تعليمهم.
اللغات التي كانت تعلمها المدرسة الوطنية هي العربية والتركية والفرنسية والانكليزية واليونانية واللاتينية. اما علومها فكانت الصرف والنحو والحساب والتاريخ والجغرافية والجبر والهندسة والطبيعيات والكيمياء والخطابة والموسيقى وغير ذلك من العلوم.
حرص البستاني على التوجه الوطني العلماني لمدرسته، فقد نقل سليم عن والده بطرس ما كان يردده ويؤكده بانه «ينبغي ان تكون هيئتنا الاجتماعية كالمدرسة الوطنية. فان طلاب العلم فيها، مع اختلاف المذاهب والمشارب وتنوع التربية، اخوة وطنيون لا تأثير لاختلاف المذاهب والاديان في اعمالهم ودروسهم ومعيشتهم». وانطلاقاً من هذا المنحى رفض البستاني كل ما من شأنه ان يتعرض لاستقلالية المدرسة او لنسبتها لابناء الوطن، متحدياً الضغوط التي مارسها مجلس مدراء الكلية السورية الانجيلية ـ الجامعة الاميركية في بيروت ـ لاجراء بعض التعديلات في قوانينها لتوافق انظمة الكلية، رغم اتفاقه مذهبياً واكاديمياً مع البعثة الانجيلية التي كانت تدير الكلية.
اتسمت علاقة المدرسة بالسلطات التركية الحاكمة بالتشجيع والتأييد اذ كان الولاة والمتصرفون الاتراك يزورونها تقديراً لدورها في ترقية اسباب المعارف والتمدن والاخلاص في خدمة الوطن، حيث لم يكن ثمة تناقض اذ ذاك بين الانتماء الوطني والانتماء العثماني الاعم والاشمل.
اقفلت المدرسة الوطنية ابوابها العام 1877 لقلة عدد تلامذتها بعدما كثرت المدارس الطائفية، لكنها كانت نموذجاً يتطلع اليه مؤسسو المدارس من جميع الطوائف، ومن هؤلاء الامام محمد رشيد رضا والياس شبل الخوري الذي انشأ «الجامعة الوطنية» في عاليه العام 1913 على غرار المدرسة الوطنية. ويكفي هذه المدرسة فخراً كونها خرّجت مثقفين وادباء ورجالات بارزين مثل سليمان البستاني مترجم الالياذة وواضع مقدمتها الشهيرة، وسليم تقلا مؤسس جريدة «الأهرام».
كرم الحلو
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد