«السيمفونية الثانية» لبيتهوفن: فتش عن المرأة
«إن الأمل الذي كان يراودني عند وصولي إلى هذا المكان، على وشك أن يذهب الآن بعيداً إلى غير رجعة. لقد أصاب الذبول أملي، بالطريقة نفسها التي يصيب بها الذبول أوراق الخريف. إلهي! لم لا تعطيني الآن يوماً واحداً أعيشه في فرح وحبور. يوماً واحداً فقط، أنا الذي صار الفرح الحقيقي غريباً كل الغرابة عني مع أنه يتجاوب في أرجاء نفسي. إلهي... متى سيتاح لي أن أعود إلى أفراح الإنسان وأفراح الطبيعة؟ أحقاً، لم يعد لي حق العودة إليها... آه ما أقسى كل هذا!».
> هذه الصرخة الملتاعة، كانت هي التي أطلقها بيتهوفن في شهر تشرين الأول (أكتوبر) 1802، في خطاب يأس أرسله إلى شقيقيه وسيعرف لاحقاً باسم «وصية هايلغشتادت»، وهو النص الأكثر سواداً الذي كتبه بيتهوفن في حياته، على رغم أنه حينما كتبه كان لا يزال في الثانية والثلاثين من عمره، وكان حقق خلال السنوات السابقة على ذلك، وبفضل أعماله الإبداعية المتلاحقة، مقداراً من النجاح النقدي والاجتماعي يحسده عليه كل زملائه. ولكن، بالنسبة إلى أعظم موسيقيّي زمنه، كان هناك تساؤل شائك لا يبارح خاطره ويقضّ مضاجعه ليحرك كل مكامن اليأس في أعماقه – وهو ذاك الذي تعبر عنه بالتحديد الصرخة التي أطلقها في الرسالة المذكورة - ما فائدة كل ذلك النجاح إذا كان الفنان بدأ يشعر، منذ الشهور الأولى لذلك العام نفسه، بصممه يزداد إلى درجة مرعبة حار معها الأطباء ولم يعودوا قادرين على شيء؟ أجل... كان ذلك هو عام الصمم في حياة ذلك الفنان الذي تكاد حاسة السمع تكون جوهر حياته. ومن هنا، نفهم كيف يكون بيتهوفن أطلق تلك الصرخة اليائسة الشاكية. غير أن الذي قد يصعب فهمه هو أن ذلك اليائس الشاكي نفسه كان هو الذي كتب في تلك الآونة عينها، واحدة من أكثر سيمفونياته فرحاً واحتفالاً بالسعادة وخفة الحياة وروعة الطبيعة: السيمفونية الثانية!
> بالنسبة إلى نقاد الموسيقى المتعمقين، يصعب اعتبار «السيمفـــونية الثانية» واحدة من أعمال بيتهوفن الكبرى، ذلك أنها - مــــن الناحــــية الفنية ومن ناحية الخيال والابتكار - لا يمكنها أبداً أن تخضع للمقارنة، حتى مع «الثالثة» – المعروفة بالسيمفونية البطولية - التي تلتها مباشرة، ناهيك بضعفها الواضح مقارنة بـ «الخامسة»، أو خصوصاً بـ «التاسعة» ذلك العمل الاستثنائي في تاريخ الموسيقى الأوركسترالية - والذي سيعرف أعلى درجات الخلود ولو على الأقل بفضل خاتمته التي سوف تستخدم لاحقاً نشيداً للأمم الأوروبية يوم توحدت أوروبا - ومع هذا ستظل لـ «الثانية» مكانتها، وعلى الأقل من ناحية احتفالها بالحب والحياة، في الزمن نفسه الذي كان صاحبها الشاب يكتب فيه «وصيته» الملتاعة. إذاً، ما الحكاية؟
> الحكاية، في كل بساطة، هي أن بيتهوفن، اختار تلك الحقبة بالذات، ليعيش، حتى وسط ظروفه الصحية المضطربة، حكاية غرام ولا أجمل... وسيقول لنا مؤرخو حياته: بل ثلاث حكايات في الوقت نفسه! ففي ذلك الحين التقى بيتهوفن بالحسناء الإيطالية الأصل ذات الثمانية عشر ربيعاً جولييتا غيتشياردي... وعلى الفور أغرم بها وأحس بأن القدر عوّضه عن آلامه ببعض السعادة - وسيروى لنا أن ذلك اللقاء منعه حتى من مواصلة التفكير في انتحار كان ينشده - لكنه ما إن بدأ يعد العدة للدنو من معشوقته هذه، حتى التقى ابنتي عم حسناوين، لها هما تيريزا وجوزفين... فأحس بأنه يعيش سعادة مضاعفة، وراح يلتقي بالفتيات الثلاث، وينكبّ في الوقت نفسه، على كتابة الحركات الأربع التي تتألف منها سيمفونيته التي ستحمل الرقم 36 بين أعماله. وطبعاً سنجد دائماً إثر تلك الحال الغرامية حينما نستمع إلى «السيمفونية الثانية»، ولكن من دون أن ندرك، من خلال تركيبتها اللحنية، أن زمن كتابة حركتها الأخيرة، كان هو أيضاً الزمن الذي خبت فيه غرامياته الثلاثة، ولا سيما غرامه بجولييتا التي سيرفض أبوها أن يزوجها به. وهنا، لعل في الأمر تفسيراً فحواه أن تلك الصدمة العاطفية تقاطعت زمنياً، مع غرق الفنان في آلامه، لتجعله يصرخ في لحظة كبرياء: «أيها القدر أنت لن تستطيع أبداً دفعي إلى الانحناء». لعل تلك الصرخة هي ما جعل بيتهوفن ينهي سيمفونيته كما بدأها: حارة، لطيفة، تسير في خطها إلى الأمام كالنسمة العليلة، وتحكي الحب والفرح والأمل بالحياة. ومن الواضح أن هذا كله ليس مجرد تفسير تبريري طالما أننا نعرف أن الفترة التي كان فيها بيتهوفن ينجز هذا العمل، شهد أيضاً - وبالتزامن - ولادة أعمال عدة له، نجدها مدموجة الآن في مصنفات تحمل الرقمين 30 و31، وتتألف في معظمها من سوناتات للفيولينة والبيانو، وأخرى للبيانو وحده.
> في حركاتها الأربع معاً، تتسم السيمفونية الثانيـــــة بمقدار كبير من النزعة الإنسانية، التي تبدو هنا مجللة بنور ربيعي بهي... ولعل أغرب ما في الأمر أن هذا النور إذ يضيء منذ الحركة الأولى (أداجيو مولتو - آليغرو كون بريّو) التي تستغرق نحو ثلث زمن العـــزف، يبدو سائراً في طريقه نحو تألق أكبر، حركة بعد حركة، وكأنه بدأ يحس باقتراب حثيث لنور الفجر الذي سرعان ما راح يسطــــع أكثر وأكثر في يوم عيد غير متوقع. هكذا، مثلاً في الحركة الثانيـــــة (لارغيتو) نحـــــس نوعاً من الهدوء الفائض والإنسانية الغامرة - التي لن يفــــوتنا أن نراها دافقة، لاحقاً، في الحركة الثانية مـــــن «السيمفونية السادسة» حيث يعكس اللحن حياة هادئة عند ضفة نهر، لكن هذه حكاية أخرى بالطبع نتركها لوقتها - وهذه الحركة الثانية، بعــــد زمن يستغرق ثلثاً آخر من زمن العزف، تقودنا إلى الحركة الثالثة، حيث ينتفض (السكيرزو) في حبور يشي بأن الطبيعة استكملت استيقاظها على إيقاع عاطفة جياشة تكاد تقف خارج الزمـــن. ولأن الاستيقاظ ما هو سوى خط زمني فاصل بين أول تباشير تفتّح الطبيعة وتفتّح الإنسان عليها، وبين الحياة إذ تنتفض، كان من الطبيعي لهذا «السكيرزو – آليغرو» ألا يستغرق سوى ثلاث دقائق، هي الزمن الكافي لارتداء الطبيعة بأسرها ثوباً من ضياء تســـبح فيه من خيوط الحب المتجدد، والكافي أيضاً لنقلنا إلى الحركة الرابعة (آليغرو مولتو) حيث تتسارع الوتيرة، قبل لحظة الاختتام، وكأن الحياة والحب والطبيعة اجتمعت معاً في لحظة انتصار أخيرة، تعبر عنها طاقة لحنية خلاقة، لن يضيرها أن تكون وصفية إلى حد ما، وتكاد تبدو واقعة، بعد، تحت تأثير موسيقى جوزيف هايدن، من ناحية الصياغة وتأثير موسيقى موتسارت من ناحية الإيقاع. وعلى أية حال علينا هنا ألا ننسى أبداً أن بيتهوفن لم ينكر، خلال تلك المرحلة المبكرة من حياته تأثره العظيم بسلفيه الكبيرين.
> إذاً، كان لودفيغ فون بيتهوفن (1770 - 1828) حينما كتب هذه «السيمفونية الثانية»، في الثانية والثلاثين من عمره، وكانت لا تزال أمامه سنوات طويلة أخرى (نحو ربع قرن) لكي ينتقل في عمله من مستوى الاجتهاد التعبيري الذي تكاد «الثانية» تعبر عن ذروته - وهو مستوى يبدو وكأنه، حتى «الثانية» تحديداً والسوناتات التي زامنتها، وكأنه يلخص ما كانت عليه الموسيقى من قبل بيتهوفن استعداداً معه للانتقال إلى مستوى آخر، سيبدأ مع سيمفونيته «الثالثة» – التي كان يمكن اعتبارها إحدى اعظم السيمفونيات في تاريخ فن الموسيقى، لولا «السابعة» و «التاسعة» لبيتهوفن نفسه - مستوى تحديد ما سيكون عليه فن السيمفونية بعد ذلك، أي مستوى الابتكارات العبقرية، التي تحفل بالعاطفة والعقل والروح معاً، بدلاً من الاحتفاء - كما هي حال «الثانية»، مثلاً - بالعاطفة وحدها مع شيء من الروح. ومع هذا تظل لـ «الثانية» أهميتها «الأخلاقية» بصفتها العمل الذي حاول به، فنان كبير كان في طريقه ليصبح واحداً من أعظم الفنانين، أن يتغلب على كل ضروب اليأس التي حاولت أن تنهض سداً في وجهه.
إبراهيم العريس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد