«الوداعات» لخوان كارلوس أونيتي.. انفجار الواقعية السحرية
لا يتمتع الكاتب الأوروغوياني خوان كارلوس أونيتي بشهرة كافية عند القارئ العربي، فيما لو قارناه ببعض أسماء أدباء أميركا اللاتينية التي عرفت أعمالهم انتشاراً واسعاً إلى حد كبير. ومع ذلك، لا تعني هذه الشهرة ولا عدم الانتشار هذا، أي قيمة نقدية، إذ منذ نهاية ثلاثينيات القرن الماضي، أي مع صدور روايته «البئر»، عرف أونيتي كيف يبني عالمه الخاص والمتفرّد، الذي جعله واحداً من أهم كتّاب تلك القارة. ربما لواقعيته الشديدة، ما أثر أيضاً في هذه الشهرة، بمعنى أن «انفجار» الواقعية السحرية» لفتت إليها الأنظار، وجعلتها تتــبوأ المراكز الأولى عند القارئ الباحث عن تفردات جديدة. لكن بالتـــأكيد، لا يُقرأ الأدب بهذه الطريقة، إذ في النهاية تفرض الكـــتابة الحقيقية نفسها، مهما اختلف عليه الأسلوب الذي جاءت عليه.
إزاء هذا، بإمكان المرء أن يقترب من عمل أونيتي بصفته أقرب إلى «الغثيان» السارتري أكثر من كونه قريباً من الواقعية السحرية العزيزة على قلوب الأميركيين اللاتينيين باعتباره عمارة للعدمية والمرارة. إذ نشاهد عند قراءتنا له، مرور مواكب من المستوحدين والمغفلين والعاطلين عن العمل والأشباح ذات الوجوه الجرداء والعجزة الذين يمشون في اتجاه الكارثة، متخطين دماء الأساطير التي انتهت إلى الأبد.
دار «نينوى» (دمشق) تقدّم بالعربية مؤخراً واحدة من روايات الكاتب التي تعود إلى خمسينيات القرن الماضي، وهي رواية «الوداعات» (صدرت العام 1954 وقام بنقلها إلى العربية علاء شنانة)، حيث يروي لنا فيها قصة «بطل» من أبطال كرة السلة، يذهب للعيش في مدينة في الجبال، كي يعالَج من مرض السل. لم يكن يحيط به إلا صاحب مقهى وممرّض كان «يتحرى» حركاته ويومياته، إذ رفض هذا الرجل أن يندمج مع باقي المرضى، ليبقى بعيداً عنهم. ربما علاقته الوحيدة «بالحياة» كانت عبر الزيارات التي كانت تقوم بها المرأة والشابة، لكن سرعان ما بدأت هذه الزيارات تشكل مناخاً يدفع إلى الاضطراب لتفرض فيما بعد شعوراً من الركود والكساد والضغط، وهي أحاسيس تقبض على نفس القارئ وكأننا أمام رواية بوليسية. بالأحرى ثمة مناخ رواية كهذه في كتابة أونيتي هنا.
يبدو أونيتي، في أدبه، كأنه يؤمن مسبقاً بوجود كائناته، كما يؤمن بوجود نفسه، فهو يحمل إليهم نظرة مليئة بالسخرية الحارة وبالشفقة الحنونة. وهو لا يتوقف في كل صفحة من صفحاته عن استكشاف «أعمق أعماق الحلم» (بحسب عنوان إحدى رواياته). فالروائي هو أحد «أساتذة» الغموض والإبهام، يتسلى في تقليب التسلسل أو في إعادة إحياء أشخاص قتلوا في كتب سابقة. إنه لا يحاول فهم أو عذر مخلوقاته، وإنما يحاول جعلهم يحيون مجدداً بكل كثافة غموضهم. فهو يتقصّى الأحاسيس، لا الأشخاص. إذ يبدو كأنه «أمير مشبوه» لعالم مبعثر وأليم يقع فريسة هوس الانحدار والموت.
بهذا المعنى يؤكد خوان كارلوس أونيتي، عبر كتابته، على هذه الرؤية التشاؤمية والجذرية للعالم، رؤية ترفض الحلول العقائدية وتغلق الأبواب أمام أيّ أمل بالخلاص. فالأمر برمّته، يتلخص في حَنْي ماضيه، كما لو أن كلباً يحاول التخلص من البراغيـــث، لذلك يخترع ذاكرة، غير فردية، وأحلاماً مختارة كمــا لو أنها أحلام عبثية، إذ لا مفرّ من العبث بتلك الموضوعـــة الوجودية ولا مفر من الكآبة والانحدار. انحدار يجعلنا نقـــف في مواجهة هذه الكتابة الموحشة التي تشكل، برأيي، واحدة من أجمل كتابات أميركا اللاتينية، التي تســتحق أن نكتشفها بعيداً من الأسماء الشهــيرة، على الأقل كي يكتـــمل المشهد، مشهد تلك الآداب التي لا تقف فقــط عند «الواقعــية السحرية».
اسكندر حبش
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد