«ثورة الترابط» وشبكاتها تصنع كوزموبوليتية عالمية

08-01-2011

«ثورة الترابط» وشبكاتها تصنع كوزموبوليتية عالمية

فيما تعلو بصخب الأصوات التي تمتدح عالم الاتّصالات الحديثة وتحوّلاته وإنجازاته، أخذ «المجلس الوطني الفرنسي للبحوث» على عاتقه مهمة تحليل التحوّلات في عالم الاتّصالات، لا سيَما في ظل العولمة، ورسم تحليل للتقلّبات التقنيّة والثقافية والاجتماعية المتصلة به. ولخّص خبراء المجلس آراءهم في كتاب حمل عنوان «عولمة الاتّصال» La Mondialisation De La Communication. ويرصد الكتاب متغيّرات عالم الاتّصالات الحديث المرتكز إلى المعلومة والمعرفة، ويلاحظ تأثيراته في العالم الواقعي، كما يناقش الفارق بين الثورة التقنيّة في الاتّصالات من جهة، والرهانات الاجتماعية والسياسية المتصلة بها من جهة ثانية. ويستهل الكتاب بالإشارة إلى أن تدفّق الصور والمعلومات بوفرة، لا يعني بالضرورة أن البشر باتوا يفهمون بعضهم بعضاً في شكل أفضل.

شبكة اتّصال فوق الماء
في مقدّمة تفصيلية، يدخل بول راس، وهو محرّر الكتاب، إلى تحليل عالم الاتّصالات الحديث، من باب الدعوة إلى تخيَل العالم القديم وحركة التنقّل فيه وكلفة التبادل التجاري وآلياته، مُذكّراً بتجارب تاريخية مثل طريقي الحرير والبخور، وموضحاً أنها لم تعد بالفائدة (حينها) إلا على قلّة من الأرستقراطيين. ويلاحظ راس أن خطوط التواصل التي تسمح بحركة كبيرة للناس والبضائع شيدت فوق الماء أولاً، إذ وُلِدت أولى الحضارات على امتداد الأنهار الكبرى مثل النيل ودجلة والفرات والغانج والنهر الأصفر وكثير من انهار أوروبا غيرها. وانطلاقاً من مسالك التواصل النهرية، ارتقت المُدُن الأولى للبشر واحتكّت حضاراتها وتلاقحت. ومع ظهور المواصلات البحرية، تغيَرت أبعاد وسائل الاتّصال، ما ساهم في ظهور حضارات كوزموبوليتية الطابع، بمعنى أنها كانت وليدة التقاء إمبراطوريات مختلفة. وقد جعل ازدهار الملاحة من البحر المتوسط أول شبكة حقيقية للتواصل، إضافة إلى كونه مساحة اقتصادية مليئة بالمنافع.

والحال، فإن مسار وسائل الاتّصال، هو الذي يربط الاقتصادات والمجتمعات ببعضها بعضاً. ولقد أتت الثورة الأولى مع الآلة البخارية التي جعلت كلفة النقل أقل، وأطلقت دينامية عميقة من التفاعل بين الشعوب، على رغم ما رافق تلك الثورة من حروب. وأدى ذلك إلى إفراز «مجتمع الاستهلاك» الجماهيري. وشهدت وسائل الإعلام تطوراً مذهلاً لأنها رافقت وسائل العيش الجديدة وساندتها.

وفي العقود الأخيرة، تطلّب التطوّر في آليات إدارة المعلومات، إدخال حركية ومرونة على عمل النُخب الحديثة الغارقة بالأوراق، إضافة إلى خفض تكلفة تداول المعلومات عبر وسائل الاتّصالات. وشكّل ذلك الأمر سياقاً انطلق منه تطوّر المعلوماتية الرقمية التي سهّلت تخزين المعلومات وتنظيمها وإعادة استخدامها. وراهناً، تعيش المجتمعات المعاصرة مُعطيات «ثورة الترابط»، على نحو ما يظهر في ظاهرة مثل الشبكات الاجتماعية الرقمية التي يعطي موقع «فيسبوك» مثالاً واضحاً عنها. ويُضاف إلى المواقع والشبكات، واقع الزيادة المطّردة في حركة انتقال البشر. ويعني ذلك أن مصطلح «ثورة الترابط» يشير إلى التقنيات المتصلة بالترابط المباشر فيزيائياً للناس (مثل السفر)، إضافة إلى الشبكات الإلكترونية والاتّصالات الرقمية التي تمكّن من نقل المعلومات بكثافة. وتسمح هذه الثورة أيضاً بنسج صلات مباشرة بين البشر عبر وسائطها، بكلفة منخفضة، كما تتيح اختلاط العوالم المفتتة بأثر من العولمة.

في الكتاب عينه، تتحدث آني بيرت عن «الجنة الأرضية: رؤية الأسبان الأولى للشعوب الأوقيانية»، ملاحظة أن عزلة تلك الشعوب ضربتها موجة العولمة في القرن السادس عشر. وتقدّمت هذه العولمة مع «اكتشاف» الملاحين الإسبان لـ»العالم الجديد» وشعوبه، إضافة إلى سعيهم لإدخال ثقافتهم إلى أرض هذا العالم المُكتشف. وحصل اللقاء الأول بين الطرفين، عِبر الكلمات. وسرعان ما ظهرت نصوص في تقارير الملاحين الإسبان، تتحدّث عن العثور على «جنّة أرضية»، بشرها مليحون وطبيعتها خلابة، ناسها لا يُفتنون بالثياب أو العمل، بخلاف الحال في المجتمعات الأوروبية.

وترى بيرت أن هذا الكلام المنمقّ يحمل دعوة إلى الاستيطان وإقامة المستعمرات وإدخال السكان المحليين في العالم الغربي والمسيحي. وكثرت إثرها المشاريع الإسبانية التي تحدّثت عن «تحضير» شعوب ما وراء البحار، بمعنى إدماجها في الغرب. وأدى هذا إلى كوارث متنوّعة، منها تسارع اختفاء السكان الأصليين، إضافة إلى إفقارهم والاستخفاف بثقافتهم.

وكذلك يظهر في الكتاب دراسة للمغربيين محمد العامري وبوسيف أوسطي عن «الصورة الأسطورية للمرأة في المرآة الأورو– مغربية». وركّزت دراستهما على الطُرُق والآليات التي ساهمت في رسم الصورة النمطية «المؤسطرة» عن الآخر، بمعنى ضخّ صور عن المرأة المغربية والفرنسية، باعتبارهما نموذجاً يمثّل التعارض بين الشمال والجنوب. وتستهل الدراسة بعرض نظرات الرحالة الغربيين المشبعة بالاستشراقية، والألوان والنور، والمحكومة أيضاً بالأفكار المسبّقة والمناخات الغرائبية. وكذا الأمر في نظرات المغاربة الذين زاروا باريس فرسموا صورة المرأة الغربية بين حديّن: أوّلهما الإعجاب، والثاني الإدانة الأخلاقية لسلوكها.

في بحث بعنوان «الحدود الثقافية: الهويَة والتواصل في أميركا اللاتينية»، تعرض نانسي موريس وفيليب شليزنغر دور وسائل الاتّصال الحديثة، والتحدي الذي تمثّله للدول والمجتمع من ناحية صنع نموذج وحيد للثقافة وتعميمه. ويلاحظ البحث الدور الذي يمكن أن تضطلع به الثقافة الشعبية وأدواتها البسيطة، في معارضة هيمنة وسائط الإعلام المتطوّرة.

ويبقى السؤال الأساس هو دمقرطة الاتّصال في وجه السياسات التي تقودها النُخّب المهيمنة على القدرات الاقتصادية.

روافع العولمة
في الكتاب عينه، يتناول أرنو مرسيه «وسائط الإعلام كحامل للعولمة ومُبْرِز للحوادث». ويلاحظ أن من وجهة نظر الإعلام العام المعاصر، يقع الحدث عندما يكون هناك قطع مع المجرى العادي الذي نشهده، وبهذه الصفة يأخذ الأولوية في المعالجة، إذ تكرّس الوسائط المرئية- المرئية المسموعة، صوراً وتحقيقات للحدث، الذي قد يلقى تغطية أوسع في الوسيط المكتوب ورقياً.

ما هو الحدث؟ يرى مرسيه الحدث في الوقائع التي تمتاز بقطع مع التعقّل الرتيب، وفي القطع الذي يولّده الحدث في صيَغ العيش أو التمثيلات الاجتماعية. ويعتقد أن الحدث يوقِع تبديلاً في حال العالم، ما يجعل الناس يعانون تغييراً وينتقلون من وضع لآخر، كما لا يستطيع الصحافيون تجاهله، فيقاربونه بطريقة تساهم في تفسيره.

ويشير مرسيه أيضاً إلى أن حصول الحدث لا يكفي بحد ذاته، كي تلتقطه وسائل الإعلام وتعالجه، خصوصاً كي يأخذ بُعداً عالمياً.

ويرى وجوب أن ينسج ترابط بين الحدث وشبكة القراءات المهنية للصحافيين، ووجود مجموعات اجتماعية تقدم للمجتمع وللصحافيين قراءة حدثية للوقائع أو (بالعكس) تمنع انتشار المعلومات حول الواقعة. ولا يختلق الصحافيون واقعاً غير موجود، لكن إبرازه ووضعه في التداول يمنحه قيمة نسبية ويجعله مرئياً أكثر. وحين تساهم وسائل الإعلام في تعزيز تفسير ظاهرة معيّنة، فإنه ينتشر في الحيَز العام، ما يجعل من الظاهرة حدثاً، بوسعه إقناع الجمهور بالتحرك والمشاركة.

ويطرح مرسيه عدداً من الشروط التي تحدّد الظهور الإعلامي لحدث ما على المستوى الدولي، أي «القراءة الحدثيّة للوقائع». ويحصرها في أربعة هي:

1- القدرة على إضفاء قيمة على الوقائع الحاصلة بالتشديد على حدّتها الانفعالية.

2- وجود فاعلين اجتماعيين يرفعون من قيمة الظاهرة ويقدّمون تفسيراً حدثياً لها.

3- إعادة تفكيك ثقافية للظاهرة باستحضار النماذج الأولية والأفكار النمطية العزيزة على قلوب الصحافيين لتغذية عملهم التفسيري.

4- القدرة الكامنة في حدث دولي يحوي معطيات تجد صدى معيناً لدى المجتمع الوطني أو له وقع اقتصادي – اجتماعي على بــلدان الإعـلاميين الذين يقررون تغطيته.

وفي السياق عينه، يدرس جيروم تريك «الكوزموبوليتية تحت وقع الانفعال – قراءة سوسيولوجية للرسائل المكتوبة والمُحرّرة كردّ فعل على أحداث 11 آذار (مارس) 2004 في مدريد». ويرى أن كثيراً من الحوادث الدولية أثارت مشاعر الناس، ما بَشّرَ بنشوء نوع  من «الحساسية» العالمية. لكن دراسة الرسائل المكتوبة كردود فعل على تفجيرات مدريد، تبيّن أنها لم تكن متضافرة، بل كانت هذه الحساسية متعددة، كما عبّرت عن نفسها في شكل مختلف من بلد إلى آخر ومن مجموعة اجتماعية لأخرى. ويرى تريك أن التفجيرات التي يمكن أن تطاول الجميع، لا تؤثر في الناس بالطريقة نفسها. وإذا ما عبّر كثيرون عن انفعالاتهم وردود فعلهم، فهم لا يفعلون ذلك بطريقة متشابهة، لأن كل شخص يدرك الحدث بطريقته، حتى حين يجمعّه شيء مشترك مع الضحيَة (مثل المحليَة، الوطنية، الإنسانية).

والحال، فإن الكوزموبوليتية لا تكمن في مضمون الرسالة، التي قد لا تقرأها الضحية في المحصلة، ولكن في واقعة التوجّه نحو الشخص عينه، أي الغريب، وفتح القلب له كما نفعل بإزاء صديق.


عفيف عثمان
المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...