آلة التكرار
يشكل عرض »أرامل على البسكليت« علامة بارزة شدّت جمهور مهرجان دمشق المسرحي، لا لشيء إلا بسبب اسم جواد الأسدي مخرج ومؤلف العرض، الذي يمثل هو الآخر علامة في المسرح العربي. شكّل العرض إقبالاً لا نظير له بين مختلف العروض، لكن الذين اندفعوا إليه بقوة في العرض الأول، سرعان ما انفضوا في العرض الثاني، إذ شكّل عرض الاسدي صدمة لجمهور المهرجان، حيث غياب النص وفوضى الإخراج. يريد الأسدي أن يلخص فكرة العرض في عنوان مسرحيته، حيث تمثل «البسكليت» رمزاً جنسياً واضحاً بالنسبة لأرامل، إلى جانب كونها شكلاً من الحلم بالحرية. لكن هذا هو كل شيء، بمعنى أن العرض يتوقف عن فكرة أرامل في منزل حبيسات ماضيهن وأحلامهن وتطلعهن إلى الرجل الغائب، على إيقاع مدينة تغص بالقتل والخطف والاعتقال.
ثيمة العرض ليست بعيدة عن »بيت برناردا إلبا«، ولكن باستبدال العوانس بالأرامل. السيدة المتسلطة حاضرة أيضاً كما في »ألبا«، وهي هنا سيدتان؛ الأم الغائبة ماري روز، وهي ممثلة تحضر نتف من أوراقها والشخصيات التي لعبتها في المنزل، والسيدة الأخرى (أدتها كارول عبود) التي ورثت عنها التسلط وهي أختها التي عانت منها ما عانت، إلى جانب معاناتها حباً خفياً آثماً لزوج أختها. بالإضافة إلى الابنة (نادين جمعة) التي تعيش نصف أيامها في مصحّ عقلي ونصفها الآخر في المنزل. وهناك من ثم السيدة العجوز التي تظل تنشد رجالها الأرامل، وتحلم، لا برجل، بل بحشد من الرجال. هذه الشخصية لعبها الممثل السوري نضال سيجري، ومع إعجابنا بأدائه الكوميدي، نريد أن نسأل أي ضرورة درامية لذلك، لأن يلعب ممثل دور المرأة العجوز؟ النتيجة هي فقط إلهاء الجمهور بمراقبة كم يستطيع الممثل الشاب أن يلعب دور الأنثى ببراعة.
فضيحة
لكن لنقل أيضاً إن هذا الدور بالذات هو ما جعل الجمهور يتابع إلى الآخر، فوحده سيجري من أنقذ العرض من ضجر الجمهور من صراخ العرض، ومن موسيقى ظلت توحي على الدوام بأن حدثاً جللاً يجري على الخشبة، في الوقت الذي لا شيء يذكر.
إن مشكلة الأسدي على الدوام هي النص، الذي يصرّ على كتابته بنفسه، وهذه هي الموضة الآن في التجارب العربية الجديدة، الكل يريد أن يغامر بالكتابة، مع أن آلاف النصـوص المسرحية الموثوقة حول العالم لم تستنفد. لقد أشفقت بحق على ممثلات يقلن كلاماً بائساً، ليس سوى لغة إنشاء لا تقول شيئاً. هذه المرة ليس النص وحده، إنها أيضاً فوضى الإخراج، الذي انشغل بحلاوة حضور الدراجات الهوائية على الخشبة، واكتفى بالمائدة الطويلة التي رافقت معظم عروض جواد، وبالمناسبة في كل مرة ننتظر من الممثلين أن يؤدوا بعضاً من دورهم على المائدة. »أرامل على البسكليت« ليست سوى »لا شيء يذكر«، إنها فضيحة مسرحية بحق.
علامات مضيئة
ولا تبتعد مسرحية »قلوب«، تأليف وإخراج حكيم مرزوقي، عن ثيمة »أرامل على البسكليت«، فهي تقدم لثلاث نساء يرين في رجل رقد أخيراً في المشفى لإجراء عملية جراحية، رجلهن، فهو زوج الأولى، وعشيق الثانية، أما الثالثة فهي رئيسة الممرضات التي تعرّفت عليه وعشقته أخيراً. الرجل غائب عن الخشبة، وهنّ لا يفعلن شيئاً سوى الحلم به، وبالطبع استحضار عقدهن ومشكلاتهن والخلفية الاجتماعية لهن. يستطرد المؤلف في الحكاية إلى حد أنها تبدو أشبه بمجرد تداعيات لا تضيف شيئاً إلى الفكرة الأساسية. الأهم هو الأداء الباهت للممثلات الثلاث (هيلين الجنابي، رباب مرهج، رولا ذبيان) الذي يجعل حتى من نص شكبيري عملاً غير محتمل.
مع عرض »كونتراكت« الراقص، تأليف وكريوغراف مي سعيفان، تبحث الراقصتان، السورية سعيفان والألمانية بترا يافورسكي في آليات تنميط المرأة والمآلات التي تنتمي إليها (النمط التقليدي، والنمط الحاثوي)، حسب ما قدّم العرض نفسه.
الراقصتان افتتحتا بلوحة تمثل احتفالاً بالجسد ومحاولة لاكتشافه، ثم تتابع سعيفان برقصة تنهل من طقس الوضوء، وصولاً إلى الرقص مع المانيكان وحـوله، ومع ملابس جاهزة، واختلاط أعضاء المانيكان بأعضاء الراقصتين. كل ذلك كان موقعاً بأشـعار أدونيس، التي بُثت هنا وهناك، والتي سُجل بعضها خصيصاً للعرض. راح الشاعر يردّد »عادةً للسماء يدان، لكنها الآن من دون يدين«، و»زعموا أني إناء..«، و«لك عطر ينساب«. عرض جميل حقاً، وواحد من علامات المهرجان المضيئة.
في العرض التونسي »مرّ الكلام«، من إخراج الشاذلي العرفاوي، يلفت هذا التكرار، فكما في »تكتيك« لعبد المنعم عمايري، يبدو وكأن ما من سبب لأزمة بين رجل وزوجته إلا أن يكون الرجل يسارياً ومناضلاً. ما يدفع بالزوجة للهرب من عالم زوجها، عالم الانكفاء والكتب والعيش في الماضي. عرض يبدو بفقره الإخراجي والتمثيلي خارج سياق المسرح التونسي.
راشد عيسى
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد