أخلاق السادة بين نيتشه و ديستويفسكي والإسلام
ولد نيتشه بألمانيا سنة 1844، و قد كان ابناً لقسيس بروتستانتي. و يعد من بين أبرز الفلاسفة في العصر الحديث، فقد أدت أفكاره إلى تغيير كبير في الفلسفة المعاصرة.
و الملاحظ في فلسفة نيتشه أنها تفتقر للنسقيّة، أو للعرض المنهجي, أي للموقف المتكامل الذي يفسر من خلاله الفيلسوف أفكاره. فكانت كتاباته متقطعة، شذريّة، و أقرب إلى الشعر من الفلسفة( 1 ).
ومن بين أبرز الأفكار التي تناولتها فلسفة نيتشه فكرة أخلاق السادة وأخلاق العبيد. فقد ميز نيتشه في كتابه “ما وراء الخير والشر” بين نوعين من الناس، لكل منهما أخلاقيته الخاصة.
ولا ريب أن فكرة أخلاق السادة وأخلاق العبيد هي نتاج الفكر الأوروبي المسيحي. فكما يقول ماركس : “إن الفلاسفة لا يخرجون من الأرض كالفطر بل إنهم ثمرة عصرهم و بيئتهم اذ في الأفكار الفلسفية تتجلى أدق طاقات الشعوب و أثمنها و أخفاها”. فالفيلسوف ابن بيئته، و الفلسفة خلاصة عصرها. و لكن مع ذلك، لنتصور أنها فكرة يمكن أن نسقطها على البيئة الإسلاميّة، فهل يمكن ذلك؟ من هنا كانت فكرة هذا المقال الذي سأحاول من خلاله أن أبين رأي نيتشه حول أخلاق العبيد و أخلاق السادة , فضلاً عن مدى مساهمة البيئة التي يعيش فيها الفيلسوف في التأثير على مواقفه الفكرية. و لهذا يجوز لي أن أتساءل تمهيداً للموضوع : هل لو كان نيتشه يعيش في بيئة إسلاميّة كان ليقول ما قاله عن أخلاق العبيد و أخلاق السادة، أو بعبارة أخرى : هل يمكن أن يظهر نيتشه جديد في البيئة الإسلاميّة؟
إن نيتشه ينصحنا بالتزود بإرادة القوة، و بمواجهة الألم و المخاطر، فمن خلال المواجهة نصبح أقوياء. وهذا ما تريده الحياة. فهي تنبذ كل ضعيف. و تأسيساً على مبدأ إرادة القوة هذا وضع نيتشه فكرته عن أخلاق السادة وأخلاق العبيد. فالنّاس إمّا ضعفاء أو أقوياء، إما من يقول للألم مر وعد، وإما من يتجنب الألم. إما من يملك فضائل الإنسان ذو النفس الكبيرة من استقلال واعتماد على النفس , وإما من يملك نقائص الإنسان الحقير من خضوع ووضاعة.
ويرى نيتشه أن أخلاق العبيد نشأت كرد فعل على اضطهاد الأقوياء، هذا الاضطهاد الذي جعل الضعفاء يقلبون القيم الرفيعة، قيم السادة، فحولوا الضعف، ضعفهم، إلى فضيلة، وعدم القدرة على الانتقام احساناً، والجبن تواضعاً (2).
ونلاحظ أن هذه القيم التي أنشأها العبيد هي القيم التي تنادي بها الأديان، و خصوصاً الدّين المسيحي الذي نادى بالمحبة وبعدم رد العنف. ففي إنجيل متى، الاصحاح الخامس نجد ما يلي : “سمعتم أنه قيل : عين بعين و سن بسن، و أما أنا فأقول لكم : لا تقاوموا الشرّ، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضاً”.
هذه هي إذن أخلاق العبيد عند نيتشه والتي تجلت في المسيحيّة، و تلك هي أخلاق السادة، أخلاق القوة والعنف. ومن هنا يمكن أن نفهم مدى مساهمة المسيحيّة بأخلاقها في نشوء فلسفة نيتشه عن أخلاق السادة و أخلاق العبيد.
و لئن كانت تلك هي أخلاق المسيحيّة فماذا عن أخلاق الإسلام، هل هي أخلاق العبيد أيضاً؟
لقد ظل نيتشه معجباً بالثقافة الشرقيّة، حتى أنه استحضر إسم النبي زرادشت في بسط فلسفته في كتابه الشهير : هكذا تكلم زرادشت. ونجد أيضاً في بعض كتاباته اعجاباً بالإسلام، وبالدين المحمدي فيقول : “أريد أن أعيش بين المسلمين فترة من الزمن طويلة، هناك على وجه الخصوص حيث تكون عقيدتهم أكثر ورعاً ونقاء بهذه الطريقة أتوقع أن أخفف من تقييمي ومن نظرتي إلى كلّ ما هو أوروبـي”. (3)
وفي الحقيقة فإن الإسلام يحبذ القوّة على الضعف. فقد ورد في الأثر “أن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف” ( صحيح مسلم ). كما ورد أن “اليد العليا خير من اليد السفلى” ( البخاري و مسلم ). و في القصاص أن النّفس بالنّفس و العين بالعين ( المائدة، الآية 15 ) و ليس كما في المسيحيّة في مقولتها الشهيرة : من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر . و هكذا فإن الإسلام يؤكد على وجوب إمتلاك وسائل القوة و التمكن. و لا أدل من ذلك ما ورد في القرآن الكريم :
“و أعـدوا لـهم ما استطـعتم من قوة و من رباط الخيـل ترهبون بـه عـدو اللـه وعـدوكم وآخـرين مـن دونـهم” ( الأنفال، 60 ).
والحقّ أن ديستويفسكي لمح إلى أخلاق السادة في روايته الجريمة و العقاب قبل نيتشه، و ضرب أمثلة لرجال تجسدت فيهم هذه الأخلاق من بينهم النبي محمد و نابليون. و كما كان نيتشه معجباً بالدين المحمدي، فإنه كان معجباً بنابليون أيضاً و الذي اعتبره مجسداً لمثله الأعلى في أعظم صورة.
يقول ديستويفسكي على لسان راسكولنيكوف : “و أذكر أنني أوضحت في مقالتي أن جميع المؤسسين و المشرّعين في تاريخ الإنسانيّة، من أقدمهم إلى أحدثهم، مروراً بأمثال ليسورجوس و سولون و محمد و نابليون و غيرهم، يمكن أن يوصفوا جميعاً بأنهم مجرمون، لأنهم حين أقاموا قانوناً إنما خالفوا بذلك نفسه قانونا قديماً كان يعد مقدساً و كان موروثاً عن الأسلاف، و ما كان لهم طبعاً أن يمتنعوا عن سفك الدم (...) حين يسهِّل سفك هذا الدم مهمتهم، بل و يحسن أن نلاحظ أن أكثر هؤلاء الرواد الذين أحسنوا إلى الإنسانيّة و أصلحوا المجتمع إنّما كانوا أناساً شاذين دموياً. (4). ثم يتوسع ديستويفسكي شارحاً فكرته : ” و أما عن تقسيمي الرجال إلى فئتين، فئة العاديين و فئة الخارقين، فإنني أوافق على أن في هذا التقسيم شيئاً من التحكم، و لكنني لم أقدم أرقاماً أيضاً. و أنا إنما أومن بفكرتي الرئيسية، و هي أن الرجال ينقسمون، بحكم قوانين الطبيعة، إلى فئتين، بوجه عام : فئة دنيا هي فئة العاديين الذين لا وجود لهم إلا من حيث أنهم مواد إن صح التعبير، و ليس لهم من وظيفة إلا أن يتناسلوا، و فئة عليا هي فئة الخارقين الذين أوتوا موهبة أن يقولوا في بيئتهم “قولاً جديداً”. و لا شك أن هناك تقسيمات فرعية لا حصر لعددها، و لكن السمات المميزة التي تفصل هاتين الفئتين قاطعة. فأما الفئة الأولى، و هي فئة المواد، فإن أفرادها، على وجه العموم، أناس خلقوا محافظين، أناس معتدلون يعيشون في الطاعة و يحلو لهم أن يعيشوا في الطاعة (...) و أما الفئة الثانية فهي تتألف من رجال يتميزون بأنهم جميعاً يكسرون القانون، بأنهم جميعاً مدمرون، أو بأنهم جميعاً ميالون إلى أن يصبحوا كذلك بحكم ملكاتهم. و جرائم هؤلاء الرجال تتفاوت خطورتها و تتنوع أشكالها طبعاً، و أكثرهم يريدون، بأساليب متنوعة جداً، تدمير الحاضر في سبيل شيء أفضل. فإذا وجب على أحدهم، من أجل تحقيق فكرته، أن يخطو فوق جثة، أو فوق بركة دم، فإنه يستطيع في رأيي أن يعزم أمره على أن يخطو فوق الجثة و فوق بركة الدم مرتاح الضمير، و كل شيء رهين بمضمون فكرته، و بما لها من أهمية طبعاً. “(5)
فديستويفسكي يشير هنا إلى أن النبي محمد و نابليون تجسدت فيهما” أخلاق السادة “.
و من هنا يمكنني أن أخلص إلى أنه مع البيئة الإسلاميّة يستحيل تواجد نيتشه جديد، أي مفكر ساخط على أخلاق العبيد، لأنها بيئة تنادي بالقوّة، ثم إن المسلم لا يعتزل في الدير، فلا رهبانيّة في اللإسلام، بل إن المسلم مطالب بمواجهة العالم، و بالدفاع عن الضروريات الخمس (6) .
و أود أن أشير في النهاية إلى أن الهدف من هذا المقال ليس هو الترحيب و القبول بفكرة أخلاق السادة، بل إن هذه الفكرة غير إنسانيّة، و قد اعتبر البعض أن النّازية نتاج للفكر النتشوي هذا (7). كما أن ديستويفسكي حين تكلم عما أعتبرته أخلاق السادة، فإنه تحدث عنها بلسان شاب قاتل أصبح مصاباً بجنون العظمة، فضلاً عن اعجاب كل من راسكولنيكوف في رواية الجريمة و العقاب و نيتشه بنابليون، و كلنا نعرف ما فعله نابليون في أوروبا من غزو و حروب و عنف (8). و أخيراً فإن الآيات و الأحاديث النبوية التي تعبر عن القوة، دائماً ما تتخذها الجماعات الإرهابيّة شعاراً لها و دليلها على أن الإسلام لن ينتشر إلا” بالأشلاء و بالسيف “أو لأقل بأخلاق السادة (9) , و هذا سوء فهم ما بعده سوء فهم، فاللإسلام لم ينتشر بالأشلاء و بالمفخخات والمتفجرات في الماضي، و لن ينتشر بهم اليوم. و إن كان هناك في القرآن آيات تدل على إرادة القوة، فهناك أيضاً آيات توجب التعايش و المحبة و المودة و العفو. لأن القرآن حمال أوجه. و أن كلّ فهم له، هو تعبير عن غرائزنا. فإن انتصرت فينا غرائز الحياة رأينا في الإسلام النبي محمد رحمة للعالمين و رأينا فيه ابن عربي و الرومي و الششتري, و غيرهم من العارفين بالله. و إن انتصرت فينا غرائز الموت رأينا فيه كل المتطرفين الذين مروا في تاريخ الإسلام، و ما أكثرهم !
الهوامش :
1 ـ برتراند راسل، حكمة الغرب، الجزء الثاني، ترجمة : د. فؤاد زكريا، سلسلة عالم المعرفة، عدد : 365، يوليو 2009، ص : 175.
2 ـ عبد الرحمن بدوي، نيتشه، مكتبة النهضة المصرية، ط 3، 1953، ص : 174 ـ 175
3 ـ
Nietzsche, Friedrich. 1986. Sämtliche Briefe. Ed. by Giorgio Colli and Mazzino Moninari. 8 Vols. Vol. 6, p. 68. Deutscher Taschenbuch Verlag. German. Quoted in Nietzsche and Islam, by Roy Jackson. London: Routledge, 2007, p. 16
اقتباس مع المصدر نقلته من صفحة الأستاذ مصطفى حداد على الفايس بوك، و قد أشار في تعليق له أنه أورد هذا النص، لأنه قرأ مقالاً يتحدث بكبرياء رهيب عن علاقة نيتشه بالإسلام من دون أن يشير صاحب المقال إلى أي نص يكشف عن هذه العلاقة.
4 ـ دوستيوفسكي، الجريمة و العقاب، المجلد الثامن، الأعمال الأدبية الكاملة، ترجمة : سامي الدروبي، دار ابن رشد، ص : 466
5 ـ دوستيوفسكي، الجريمة و العقاب، مرجع نفسه، ص : 467، 468
6 ـ الضروريات الخمس : الدين، النفس، العقل، العرض، المال. و أشير هنا إلى أن الكثير من جرائم الشرف ترتكب دفاعاً عن العرض.
7 ـ يقول برتراند راسل :” و لقد ركز الكثيرون على هذه السمات ـ سمات القوة ـ من دون أن يضعوها في سياقها الطبيعي، فرأوا في نيتشه مبشراً بالأنظمة القائمة على الطغيان السياسي في عصرنا الحاضر، و من الجائز بالفعل أن بعض الطغاة قد استمدوا بعض الوحي من نيتشه. “انظر : حكمة الغرب، مرجع سابق، ص : 173
8 ـ يروي محمد الضعيف الرباطي في كتابه الممتع” تاريخ الدولة السعيدة “الذي حققه أحمد العماري، و نشرته دار المأثورات ما يلي :” و في هذه السنة قوي سلطان الفرنسيس و هو نابليون بنابارطي، و قهر أجناس النصارى و غلبهم، و لا بقى مخالفا عليه إلا اللنقليز. " انظر صفحة : 342
9 ـ انظر شريط لأحد الإرهابيين و هو يقول قبل أن يقدم على تفجير نفسه بأن الإسلام لن ينتشر إلا بالأشلاء :
http://www.youtube.com/watch?v=W0PlGGzVtFQ
محفوظ أبي يعلا
المصدر: الأوان
إضافة تعليق جديد