"أشباح" جهاد سعد وأبعادها المسرحية

29-06-2006

"أشباح" جهاد سعد وأبعادها المسرحية

وكأننا خلقنا من بحر.. متقلب موجه.. عات ووعر.. أو هو وديع دافىء ورقراق.. هكذا نجد أنفسنا في بحر الحياة نتلاطم في أمواج مفارقاتها وتناقضاتها.. تتجاذبنا قيم ومبادىء تفرضها علينا سلطات كثيرة ومتنوعة، بدءاً من الأسرة وما تكرسه فينا من مفاهيم وقيم، مروراً بالمجتمع الذي يضيف إليها مفاهيم ومبادىء أخرى وصولاً إلى سلطة الدين الذي هو السلطة الأعلى التي تنظم قوانين حياتنا.. ونكبر مع هذه القيم دون أن نتوقف عند قناعتنا بها، وتمثلنا لها التمثل الحقيقي، الأمر الذي يجعلنا نعيش ازدواجية تترواح بين استمرارنا بقبولنا لهذه المفاهيم والقيم وبين رفضنا لها أمام تمثل قيم أخرى مغايرة لها.. فنتزيف في علاقتنا مع أنفسنا ومع الآخرين، هذا الزيف الذي يشكل قناعاً مغايراً لسلوكنا ومبادئنا.
هذا ما طرحته مسرحية «الأشباح» من تأليف هنريك ابسن واعداد واخراج: الفنان جهاد سعد، والتي قدمت مؤخراً على مسرح دار الأسد للثقافة والفنون، إذ تدور فكرة المسرحية حول امرأة لم توفق بزواجها، وتكتشف أن زوجها شخص غارق بالفساد، ويعاني من عقدة الضعف الجنسي التي تجعله يغرق في علاقات مشبوهة وسيئة مع النساء.. وليس أمام هذه الزوجة، من منطلق ما تربت عليه من قيم ومثل أصبحت ترتديها كقناع تظهر فيه أمام الآخرين، بينما تعيش بينها وبين نفسها حالة من التمزق النفسي والروحي إلا أن تسكت على فساد زوجها حفاظاً على سمعة عائلتها والمركز الاجتماعي الذي تشغله هذه العائلة، وتضحي بسعادتها الشخصية من أجل ذلك، وعندما يموت الزوج تتبرع بأمواله لبناء ملجأ للأيتام تخليداً لذكرى هذا الزوج أمام الناس، ولتبعد شبح الفساد الذي تحمله هذه الأموال عن بيتها وعائلتها، لكن ما حصل في النهاية أن الملجأ احترق وكأنه يقدم عبرة على عدم نجاح توظيف الشر لخدمة الخير.
لقد مثّلت أحداث المسرحية حالة مكاشفة شفافة من قبل هذه المرأة عبّرت عنها بصوت عالٍ أمام نفسها وعائلتها وسلطة الدين الذي كانت تخشاها، والتي تعاطفت أخيراً مع معاناتها، فكانت هذه الشفافية المنفلتة من قسوة الحياة إعلاناً لولادة جديدة لهذه المرأة التي قررت التحرر من عتمة ذاتها التي فرضت عليها لأسباب شتى، إلى النور والحقيقة المطلقة، فقد وصلت إلى مرحلة من التمزق الذاتي أن رأت في نفسها شبحاً يطبق على روحها، ويعمي نظرها عن رؤية الحقيقة التي تتجلى وراء القناع الذي تتستر خلفه بحجة الحفاظ على سمعة العائلة، بينما هي تعيش ازدواجية جعلتها بعيدة عن جمالية الحياة.. وقد كانت مكاشفتها لذاتها دعوة لنا جميعاً لننظر في أعماقنا إلى الأشباح التي تقبع في ذواتنا والتي تتوضح ملامحها شيئاً فشيئاً قد لا نراها نحن لكن الآخرين ربما يرونها، وهم لا يرون الأشباح المقيمة في دواخلهم، وفي لحظة التعري الذاتي للنفس تتجلى الرؤية بوضوح ليرى الجميع الأشباح في أنفسهم وفي غيرهم ..
لقد عمل ابسن في مسرحه على الداخل الانساني، وحوّله إلى مكان لعرض قضايا واقعية وخطيرة يعاني منها المجتمع الأوروبي، وكانت هذه المسرحية دعوة للكشف عن أقنعة الزيف الاجتماعي ونبذ النفاق على حساب المبادىء الأساسية التي تضر بالفرد والمجتمع، ويؤكد بالوقت ذاته على أحلام الانسان وأوهامه التي هي الناظم الرئيسي للحياة واستمرارها بما يتماشى مع القيم التي تحض على الخير والجمال.

 

المصدر: البعث

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...