أمل عرفة: موجاي على بالي

02-12-2008

أمل عرفة: موجاي على بالي

تبرير التبرير, السبب المختبئ وراء السبب, النية المختلسة من وراء النية, الجملة التي تقال ووراء حروفها توجد عشرات المعاني, إذ لا تكتفي لغتنا العربية بمعنى واحد، ولا بتعبير واحد ربّما داخل تركيبة الكلمة الواحدة، وذلك لقوتها، ولغناها، ولتركيبتها المتنوعة، ولقواعدها، وإعراباتها الشديدة التنوع، كالتشبيه البليغ، والكناية، والصفة والموصوف, إضافة إلى قواميس اللغة العربية، التي ترادف فيها الكلمة الواحدة ألف معنى وشكل ولون !!
فضل هذه اللغة على شعبها يكمن في أنها أضافت إليه حلّة تاريخية منذ أزمان بعيدة، هذه الحلة متجددة متلونة متعددة المستويات إلى الحدّ الذي تتمكن فيه هذه اللغة في كثير من الأحيان من أن تصنع من "البني آدم" الواحد كذا "بني آدم"، يتكلم بذوق عالٍ، لكنه في الواقع يعبر عن استيائه منك، ولك أن تختار المعنى الذي يناسبك كمتلقٍّ، عليه أن ينبش بين كوم من المعاني، ليسمع حسب مزاجه، ثم ينتقي, إذاً القصة ليست فقط في الإرسال بل في الاستقبال أيضاً. فقد عودتنا ذاكرة الأمثال الشعبية أيضاً على الكثير من السلوكيات الخاطئة والبعيدة عن الإنسانية في تعاملاتنا مع بعضنا البعض، أو تلك الأمثال التي ضربت بحسّنا ومسؤوليتنا الإنسانية تجاه بعضنا البعض كبشر، وأراحت ضميرنا، وكرّست الرّضا عن الذات، كمثل (الجامع مسكّر، وأنا مرتاح)، ليلحق بمثل (إذا شفت الأعمى طبو ما لك أكرم من ربو)، صحيح أن المثل هنا يتناول أعمى البصيرة، الذي لا يتمكن من رؤية مصلحته, لكنه أيضاً يتناول فكرة فقدان البصر، بقليل أو كثير من الاسترخاء, (الولد اللي مو من ضهرك كل ما جنّ افرحلو)، (اللي بيتجوز أمي بقللو ياعمي)، وهناك أمثلة عديدة محظور علينا ذكرها رقابياً، لكنها في أذهاننا وأذهانكم باقية، إن لم تكن قد شكلت جزءاً من تركيبة نفسية اجتمعنا عليها بخطوط عريضة في سلوكنا وتصرفاتنا، إن كان بنفي الإحساس بالمسؤولية الذي أورثتنا إياه بعض الأمثال، وإن كان بالسخرية المبطنة من أيّ كان وكيفما كانت علاقتنا به، أو في الشماتة الحاضرة والجاهزة بفشل أيّ كان، مشروع زواج، أو عمل، أو صداقة، أتساءل من منّا قادر على أن يتفوه بتعبير لا يحمل معنيين, أريد أن أسمع كلاماً واضحاً محدداً له شكل واحد، جملة مفيدة لها التوجه نفسه، المبعوث من الناطق والمستقبل، منّي أنا السامع, أريد أن أعبر تعبيراً لا أضطرُّ بعده إلى الشرح، رغم أنه "شارح حالو"، كتعبير (مو جاي على بالي)، وأكتفي دون أن أسبقه بديباجة تهذيب مكرور وممل، ودون أن ألحقها باعتذارات لا مبرر لها، كـ (معلش لا تزعل مني, موقصدي دايقك, بس عن جد مو جاي على بالي ...الخ الخ الخ).....
أريد أن أدخل إلى مطعم لأطلب وجبة "حيللاه", أريد فجأة أن أفقد اسمي لأحتفظ بهويتي فقط كإنسان لا اسم له سوى شكله، ولا صفة له سوى حديثه ذو المستوى الواحد ...
ما الضير في أن نعيد تشكيل ذاكرتنا، ونفقد مفرداتنا لنخترع مفردات أبسط وأوضح، دون مستويات تجبرنا دوماً على التحليل، وكثيراً ما توقعنا في فخِّ الخطأ في تحليل الشخص المقابل, أريد وجوهاً تبتسم لي، وأبتسم لها في كل صباح دون تحية منطوقة, أريد عيوناً تلفّني بالسلام، وألفها بالسلام، دون عبارات ملمومة من هنا وهنا, أريد فنّاً دون حوارات ونقاشات تجهض فرحي وفرحهم, وإذا كان من الضروري أن ننطق فلننطق بما يعتمل في داخلنا فعلاً، دون ازدواجية ... لماذا لا نتكلم بمستوى واحد وفي ذات الوقت نحمي أنفسنا من أن نكون سطحيين؟؟؟
ولنكن سطحيين، وهل الأطفال الذين تعلموا الكلام لتوهم سطحيون عندما يجيبون (موجاي على بالي ؟)...
ألم تتعبنا المستويات بعد ؟ ألم يرهقنا الحد الكبير الفاصل ما بين المنطوق والمكبوت؟ وتلك الهوة الكبيرة الفاصلة مابين براءة الابتسامة والعيون البلورية في وجه واحد ؟ أنا شخصياً ...تعبت وأفضل اللعب بالمفردات البسيطة التي اخترعناها ووظفها الأطفال في غير أماكنها لأستمتع معهم بطفولتي، بعد أن أعطل أجهزة الاستقبال والإرسال لدي التي خربتها السنة نصحتني، وأيدٍ لفّتني، ومدائح أقنعتني بنفسي، وشوائب من هنا وهناك عطّلت طاقتي الروحية، ومنذ الآن سأتوقف عن التحليل وأقول: "حبيت وما حبيت وجاي عبالي وموجاي عبالي"، وسأستعد جيداً لوصف أطلق وسيطلق، وسيبقى يطلق علي (مزاجية) وسأحبه ...جداً.. مفضلة إياه على أبشع الألقاب (ازدواجية)...

 

أمل عرفة

المصدر: بلدنا

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...