إلزا غودار.. التحليل النفسي في زمن "السيلفي"

02-09-2021

إلزا غودار.. التحليل النفسي في زمن "السيلفي"

في كتاب "أنا أوسيلفي إذن أنا موجود"، تتلاعب "إلزا غودار" بعبارة مؤسسة في تاريخ الفلسفة؛ هي "أنا أفكّر إذن أنا موجود" لـ رينيه ديكارت، وهو ليس تلاعباً لفظياً فحسب، وإنما محاولة لوضعنا مباشرة أمام القطائع التي يعيشها الإنسان بين عصر وآخر، انطلاقاً من مسألة تبدو عارضة وبسيطة؛ تلك الصورة التي يلتقطها كثيرون لأنفسهم وسرعان ما ينشرونها على مواقع التواصل الاجتماعي.


على بساطتها، ترى غودار أن هذه العملية متفرّعة في مساحات متشعبة من النفس، هي مثل جبل الجليد الذي لا يظهر منه سوى الجزء السطحي فيما يستمرّ بعيداً في الأعماق؛ فمن خلاله لنا أن نحلّل النرجسية، وأثر التكنولوجيا والعصر الرقمي على أنماط الحياة، وتحوّل الصورة كخطاب مستقلّ بذاته، وصولاً إلى ما تسمّيه بـ"ثورة الأنا".

تخلص غودار إلى أن هواتفنا باتت تُغيّر بشكل جذري في علاقتنا بالعالم العاطفي، وبالعالم بشكل عام؛ إذ تشير مثلاً إلى أن الهاتف بات الشريك الأقرب للإنسان الحديث، مُحدثاً حوله دائرة أولى قبل أي علاقة بشرية، كما أنه يسهّل الانسحاب من عالم العلاقات البشرية، وهو ما تمكن ملاحظته في أماكن التجمعات العامة كوسائل النقل أو الخدمات الاجتماعية، فتحضر الأجساد فيما تكون العقول في عوالم أخرى.

هذه القراءة النفسية تُتبعها غودار ببُعدها الاجتماعي، حيث تجعل هذه الممارسات من المجتمع مسرحاً لتجسيدات الأنا، والذي يمثّل فيسبوك خشبته الحية، وهي تحفر في التسمية نفسها، فتشير إلى أن كلمة "فيسبوك" تعني في النهاية "كتاب الوجوه"، هناك يصبح الأنا علامة للترويج، وفي هذا الإطار لا نكون إلّا إذا كنّا مرئيين، ومع اتساع نطاق الظاهرة يصبح السيلفي مقاومة للموت الرقمي.

تذهب غودار أبعد في أسئلتها، ففي كتاب لاحق تطرح سؤال: "هل سيختفي التحليل النفسي؟" (2018)، وهو عمل تضع فيه مجال اختصاصها على محك الفكر النقدي انطلاقاً من تحوُّلات الإنسان المعاصر، في وقت انبنت فيه فرضيات التحليل النفسي على إنسان نهاية القرن التاسع عشر. بالنسبة إلى غودار، ليس من مسلَّمات الأمور القول بأن يكون التحليل النفسي قادراً على التأقلم مع الإنسان المعاصر، وهي تدعو تبعا لذلك إلى إعادة فهم فرضيات هذا الحقل المعرفي انطلاقاً من الإنسان ما بعد الحداثي، وجعل التحليل النفسي يفكّر في الأنواع الجديدة من "القلق" التي تخترق الحضارة، وإلا فسيكون مجرّد قطعة متحفية في تاريخ المنهجيات العلمية لفهم الإنسان.

من زاوية أخرى، تعتبر غودار أن من الأخطار التي يتعرّض لها التحليل النفسي أن يصبح في التمثّل العام مجرّد طريقة علاج، بحيث ينسحب المحللون من الأفق الإنساني الأشمل ليبيعوا خبراتهم إلى زبائن في حاجة إلى مهدّئات ومسكّنات.

 

شوقي بن حسن

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...