إمساك الخطوط الوهمية في الرقابة السورية
لا السيد وزير الإعلام ولا حكومته مجتمعة بقادرة على إلغاء خطوط الرقابة الحمر في بلادنا، لأنها وببساطة خطوط متغيرة ومتبدلة وأحيانا غير مرئية مثل أحوال الهلال، ولطالما طالبت خلال سني عملي الطويلة في مجال الكتابة بتحديد الممنوعات في النشر، إذ أن الرقابة مازالت خاضعة لتقدير الرقيب وضيق أفقه ومستوى خوفه على وظيفته الأمنية.. والواقع أن إلغاء الخطوط الحمر في الرقابة يحتاج إلى توافق الإكليروس الديني والسياسي على أن حركة التقدم تحتاج إلى إطلاق حرية التعبير وقول الحقائق مهما كانت صادمة، وهذا مايفعله أعداؤنا في بلدانهم القوية التي لاتخشى عقول علمائها ومفكريها ومواطنيها وممثليهم في البرلمان..
في تجربتي مع الرقابة هناك الكثير من القصص الساخرة، أذكر بعضها عندما كنت أحرر الصفحة الأخيرة في جريدة تشرين : فمرة كتبت عن رئيس الحكومة الراحل محمود الزعبي الذي انتحر برصاصتين، ومرت النكتة أسبوعا قبل أن يكتشفها رقباء القيادة القطرية أيام الرفيق عبدالله الأحمر وعبدالحليم خدام، فعوقب الرقباء الأدنى منزلة الذين يجب أن تمر عليهم مقالتي، وهم بالترتيب : رئيس القسم فأمين التحرير فمدير التحرير فالمحرر المناوب فرئيس التحرير.. وكل هؤلاء يشطبون من تحقيق أو مقالة المحرر على مزاجهم، هذا إذا لم يمنعوها من النشر، ومع ذلك كنا نمرر مايعجب القارئ ويمثل همومه فيما تبقى من سطورنا.. بالطبع خارج الجريدة هناك رقابة وزارة الإعلام ورقابة القيادة القطرية والمؤسسة الأمنية والأوقاف، وكل منهم قادر على استدعاء الصحفي ومرمغة كرامته بالتراب، ثم زادوا في الطنبور نغماً باستحداث محاكم الجرائم الإلكترونية التي وسمناها بمحاكم التفتيش .. وأذكر أنه رفعت ضدي عشرات القضايا من المتضررين الذين كنت أتناول فسادهم وزرت أغلب محاكم القطر في المحافظات و خرجت منها بريئا لأني لم أكن لأنشر شيئا لا أستطيع إثباته بالوثائق والشهود.. كما صدرت عدة مذكرات توقيف بحقي من وزراء عدل وداخلية تضرروا مني، وألغى بعضها القائد الراحل حافظ الأسد ومن ثم الرئيس بشار الأسد، وقد هربت من بيتي وجريدتي عدة مرات حتى لايُقبض علي، كما منعت لسنوات طويلة من تغطية جلسات مجلس الشعب رغم طلباتي العديدة، وكان محاموا النقابة يترافعون عني مجانا، كما سبق واستجوب المجلس وزير الإعلام بسبب مانشرته في سلسلة "فدعوس المدعوس" الساخرة عن آلية صناعة الفساد في مؤسسات الدولة .. كما أعترفت أن الرقباء قدموا لي خدمة جيدة، إذ كنت مرغما على تجديد صياغاتي وتغيير أسلوبي في الكتابة كي أمرر ما أريد إيصاله للناس عبر القنوات الصحفية الرسمية الوحيدة آنذاك، فمثلا إذا أردت أن أصف امرأة مثيرة أكتب: أقبلت علينا وأشياؤها تهتز، وإذا أردت انتقاد البلدان النفطية أسميها بلدان الزيت المعدني، وبما أن كلمة الشعب كان ممنوعا ذكرها إلا في السياق الثوري الإيجابي فكنت أستخدم كلمة الناس أو عباد الله.. وهكذا كنا كصحفيين سوريين نرقص في حقل من الألغام، وأذكر أن أحد موظفي قسم التصحيح في جريدة تشرين اختفى بضعة أشهر لأنه نسي تصحيح حرف ناقص في جملة (وحضر الأمين المساعد لحزب البعث) حيث نسي المنضد حرف الحاء في كلمة حزب .. وبعد خروجه قال لي أنهم كانوا ينادونه في السجن (أبو الحرف) مع أن الرجل كان بعثيا مخلصا ومحاضرا في مدرسة الإعداد الحزبي.. وهناك الكثير من الذكريات المريرة عن (الرقابة الوطنية) مما يمكن أن أفرد له مجموعة قصصية ساخرة ..
وعلى الرغم مما تقدم ،كان سهل علينا تمرير أفكارنا كي نصل إلى جمهورنا، غير أن الرقابة الأشد كانت رقابة الجمهور السلفي الذي يمكن أن يؤلب الأرض والسماء ضدك، فأي كلمة أو رأي مختلف في الدين يمكن أن يودي بصاحبه، ولنا في الدكتور محمد شحرور والمخرج نجدت أنزور مثالا..عداكم عما جرى بحقي في مجلس الشعب الأسبوع الماضي..
فآيديولوجيا الهزيمة التي أفرد لها المفكر البعثي الماركسي ياسين الحافظ كتابا بعد النكسة مازالت قائمة في رؤوسنا داخل رفوف معتقداتنا السياسية والدينية والإجتماعية والجنسية، ولن نتقدم قبلما نتحرر من قيودنا الرقابية وبقايانا السلفية المحافظة، فكيف إذا كان لدينا أربعين نائبا يمنعونك من الكتابة بحرية ويحاكمونك على أفكارك التنويرية !
أظن أننا لن نتمكن من إلغاء الخطوط التي يحلم بها وزير الإعلام وسائر المتنورين في دولتنا العلية إذا لم يكن لدي المؤسستين السياسية والدينية قرار بوضع الأمر على مائدة الحوار الوطني لمجتمع مابعد الحرب..
نبيل صالح
إضافة تعليق جديد