طريق الحرير الصيني.. صراع الموانئ في شرقي المتوسط
ليلى نقولا:
منذ 4 آب/أغسطس 2020؛ أي تاريخ انفجار مرفأ بيروت، وبعده الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على مرفأ اللاذقية، سُلِّطت الأضواء على موانئ شرقي المتوسط كمحور صراع جيوبوليتكي. قبل ذلك، كانت موانئ القرن الأفريقي مركزاً جاذباً للصراع الجيواستراتيجي في المنطقة، منذ ما بعد إعلان مبادرة “الطريق والحزام” الصينية، والتي تكرّس في شقّها البحري أهمية كبرى للموانئ التي ستكون قبلة التجارة الصينية مع العالم.
كان القرن الأفريقي ساحة لصراع السيطرة على الموانئ، والتي بدأت من جيبوتي، التي توصف بأنها المركز التجاري الرئيسي في شرقي أفريقيا. وقامت جيبوتي، عام 2013، بفسخ عقد تطوير مينائها – يصفه البنك الدولي بأنه من أكثر الموانئ تطوراً في العالم – مع شركة “موانئ دبي”، لتعقد اتفاقاً مع الصين، وترفض عروضاً فرنسية وكندية في هذا المجال.
وتكريساً للاستراتيجية الصينية التوسعية، عبر الاستثمار والتنمية، لم تكتفِ الصين بتطوير البنية التحتية لميناء جيبوتي، بل أنشأت فيه أول قاعدة عسكرية لها خارج حدودها، من أجل “محاربة الإرهاب”، كما جاء في “الأوراق البيضاء” الصينية. وكما جيبوتي، شهدت كل من إريتريا والصومال واليمن منافسة، دولياً وإقليمياً، من أجل الاستحواذ على الموانئ. وتزايدت حدّة المنافسة بعد أن أعلنت الصين تطوير ميناء “جوادر” الباكستاني، المطل على بحر العرب.
وكما هي الحال في شمالي أفريقيا وشرقيّها، كذلك في شرقي المتوسط، الذي يبدو أنه بات رقعة شطرنج جيواستراتيجية، ازدادت أهميتها بعد مبادرة الطريق والحزام الصينية، وذلك من خلال ما يلي:
– الطريق البرّي الذي يُعيد الحياة إلى طريق الحرير البري القديم، من خلال عبور آسيا الوسطى والمشرق العربي وتركيا، وصولاً إلى أوروبا، وربط المناطق بعضها ببعض، عبر شبكة معقَّدة من السكك الحديدية والطرق السريعة والموانئ الجوية والبحرية وشبكات الكهرباء والنفط وخطوط أنابيب الغاز الطبيعي المَسِيل وشبكات الاتصالات.
– طريق الحرير البحري، الذي يعيد إنتاج طريق الحرير البحري التاريخي القديم. يمتد من بحر الصين الجنوبي والمحيط الهندي، ويمرّ عبر البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا، مع فارق رئيسي مفاده أنه يصل إلى وجهته النهائية (أوروبا) عبر خليج عدن وقناة السويس، بدلاً من الالتفاف حول القارة الأفريقية، كما كان الطريق القديم.
ولأن الصين تعتمد تنويع الخطوط وعدم الاعتماد على خط رئيسي واحد، يمكن للولايات المتحدة أو للمنافستين الاقتصادية والجيوبوليتيكية، أو لعدم الاستقرار، سياسياً وأمنياً، أن يعرقله، فإن دمج تركيا ودول شرقي المتوسط في “مبادرة الحزام والطريق” يعطي الصين مَنْفَذاً موازياً إلى البحر الأبيض المتوسط، يمكّنها من تخطّي قناة السويس كطريق تجاري دولي مع جنوبي أوروبا وشمالي إفريقيا.
انطلاقاً من هذه الرؤية، استثمرت الصين في ميناء حيفا، وأبدت رغبتها في الاستثمار في ميناءي اللاذقية وطرطوس في سوريا، ووقعّت اتفاقيات لتطوير مرفأ طرابلس في لبنان واستخدامه:
1- تطمح “إسرائيل” إلى أن يشكّل ميناء حيفا مركزاً تجارياً إقليمياً، يجعل “إسرائيل” مركزاً للملاحة البحرية في المنطقة، مستفيدة من عمق المياه التي تسمح باستقبال السفن الضخمة. وكانت بلدية مدينة حيفا وقّعت اتفاقاً مع الصين في حزيران/يونيو 2019، مدته 25 عاماً، لبناء ميناء بحري كبير على البحر الأبيض المتوسط وتشغيله، وبدأ تشغيله في أيلول/سبتمبر 2021.
2- أبدت الصين اهتمامها بتوسيع قدرة ميناء اللاذقية وتطوير ميناء طرطوس، آخذة في الاعتبار المصالح الروسية في طرطوس، والإيرانية في اللاذقية.
3- تسلّط الصين نظرَها على موانئ لبنان، وخصوصاً ميناء طرابلس، من أجل استخدامه مِحْوَراً مركزياً لإعادة الشحن إلى شرق البحر الأبيض المتوسط. إن قرب طرابلس من سوريا يجعلها مركزاً محتملاً لمشاركة بكين في إعادة الإعمار في سوريا بعد الحرب. كما أبدت الصين رغبتها في إنشاء سكك حديدية تربط بيروت بطرابلس، كما تربط لبنان بسوريا.
بناءً على كل ما تقدَّم، يبدو أن هناك حربَ موانئ حقيقية تجري في شرقي المتوسط. إن الهدف من استراتيجية السيطرة على الموانئ هو التموضع على خط المسالك البحرية التي ستعتمدها طريق الحرير الجديدة، في شقّها البحري، والاستفادة من التبادل التجاري الدولي والتحكّم في المضائق المهمة، من خلال تسهيل تحركات القطعات البحرية للدول أو إعاقتها خلال أوقات الحرب.
وهكذا، إذا كانت “إسرائيل” تضع نصب عينيها تحويل مرفأ حيفا إلى مركز تجاري إقليمي يسيطر على كل التجارة البحرية في المنطقة ويستقطبها، فإن من مصلحتها خروج الموانئ المحيطة في كل من لبنان وسوريا من الخدمة، وتحويل السفن التجارية إلى حيفا، حتى لو اضطرها الأمر إلى إخراج المرافئ الأخرى من الخدمة عبر العدوان.
بناءً عليه، إن انفجار مرفأ بيروت وخروجه عن الخدمة بعد آب/أغسطس 2020، إضافة إلى العدوان الإسرائيلي على مرفأ اللاذقية في الـ 28 من كانون الأول/ديسمبر 2021، والأضرار الهائلة التي لحقت به، تجعل الأنظار تتجه إلى ميناء طرطوس في سوريا وميناء طرابلس في لبنان:
– مرفأ طرطوس: إن وجود القاعدة العسكرية الروسية في طرطوس، وخشية الإسرائيليين من إثارة الغضب الروسي، قد يحيّدان مرفأ طرطوس من استهداف إسرائيلي – أقلّه – في المدى القصير.
– بالنسبة إلى مرفأ طرابلس: منذ تكريس توازن الردع بين لبنان و”إسرائيل” بعد حرب عام 2006 وما تلاها، هناك خشية إسرائيلية دائمة من ردّ لبناني صارم عسكرياً في حال تمّ استهداف مناطق أو موانئ لبنانية. لذا، فإن العدوان العسكري الإسرائيلي المباشِر قد يكون مستبعَداً. فهل يشهد مرفأ طرابلس عملاً تخريبياً مفتعَلاً يسجَّل ضد مجهول، أو يتَّسم بالغموض، بحيث يندرج تحت بند الفساد وتقصير المسؤولين وإهمالهم؟
الميادين
إضافة تعليق جديد