الأسرة السورية و"لعبة الحياة"

15-12-2009

الأسرة السورية و"لعبة الحياة"

يبدو لنا منذ الوهلة الأولى أنه من السهل جداً إيجاد فقير مدقع نتجاذب معه أطراف الحديث ليشرح لنا كيف يتدبر أموره المعيشية والمادية طوال أسابيع وأشهر السنة، ولكن عندما نبدأ بالبحث والسؤال عن طلبنا في أحد الأحياء نجد أنفسنا وكأننا نبحث عن إبرة في كوم قش، ليس لأنه لا وجود لفقراء أو معدمين في هذا الحي أو ذاك أو لأنهم قلة قليلة لا يمكن العثور عليها، بل لأنهم أناس مثلنا مثلهم لا نميزهم عن أنفسنا وعن سائر الناس الطافين على وجه البسيطة، ولا نختلف عنهم بشيء إلا ببعض المظاهر الخارجية أحياناً. 
 توجهنا إلى إحدى الجمعيات الخيرية للدخول في تفاصيل حياة أفرادها اليومية البائسة، والاستماع إلى أحزانهم المعيشية والتعرف مباشرةً أن أياماً وليالي طويلة مرت على هؤلاء الناس وهم يلتحفون الحزن والحاجة خلف أبواب وجدران بيوتهم، لا يراهم أو يعرفهم حق المعرفة إلا قلة ممن أخذوا على عاتقهم جزءاً من هذه المسؤولية ممثلين بالجمعيات الخيرية التي أوجدها فاعلو الخير وهم في الحقيقة كثر في هذا البلد.

- «أبو حامد، اسم مستعار» كان يعمل بكد لإطعام أطفاله العشرة عندما كان يتمتع بقوته وشبابه إلى أن خف نور بصره ليقبع مع أولاده وزوجته في الفقر لخمس عشرة سنة متواصلة لا يعينه على المعيشة سوى حفنة قليلة من الليرات كان يجنيها من العمل على سيارة أجرة.
وفي سؤال حول كيفية تكيف أسرته مع المورد المادي القليل في وجه تأمين متطلبات الحياة اليومية قال أبو حامد: «أخذت على عاتقي طوال هذه الفترة مسؤولية المرور على السوق لأشتري الحاجات الأساسية اللازمة لأسرتي من طعام وشراب على قدر ما أجنيه يومياً من عملي، مع الحرص على التدبير في الأمور المعيشية طوال الشهر كاملاً».
وعن تكيف أبي حامد مع الحالات الصحية الطارئة التي تتعرض لها الأسرة في ظل ظروفها المادية الصعبة أكد أن وقوع أحد أفراد الأسرة في المرض لم يكن بالأمر السهل إلا أن الأمور كانت تسير على ما يرام «بعون الله»... وتطرق أبو حامد إلى الإصابة التي أدت إلى فقدان ابنه لبصره في إحدى عينيه وأنها كانت صدمة معنوية ونفسية ومادية باهظة الثمن لم يرد الدخول في تفاصيلها أكثر من ذلك.
وقال أبو حامد إن العيش في الحد الأدنى من مستوى المعيشة يتطلب صبراً وجلداً من الشخص الذي عليه أن يرتضي بقسمته من الأرزاق ولو أنه اضطر إلى ارتداء نفس اللباس لعشر سنوات فهذا ليس عاراً ولا ينقص من كرامة الإنسان القنوع، وذكر أن ارتداء الفقير الثياب المرقعة ليس عيباً وبالنسبة له ليس أمراً جديداً في حياته وهو ما اعتاد عليه منذ طفولته عندما كان والداه في السابق يقومان بترقيع ثياب الأسرة البالية وجعلها مقبولة قدر الإمكان.
في نهاية المطاف كانت جمعية القابون الخيرية التي أحدثت في عام 2001 رافداً قوياً لأبي حامد الذي عانى من المرض لسنوات طويلة، وكلفه ذلك إجراء أربع عمليات جراحية دفع تكاليفها فاعلو الخير والجمعية الخيرية المذكورة التي داومت على تخصيص راتب شهري له بعد أن انقطعت موارده المادية نتيجة عدم قدرته على العمل مطلقاً.
بعد عمله لسنوات طويلة كلحام أصاب وليد خريبية المرض والعجز في المفاصل وانقطع المورد المادي الذي كان يدخل جيبه يومياً وبقي هو وأولاده على هذا الحال إلى أن تم تسجيله في جمعية العباسيين الخيرية التي صرفت له 700 ليرة شهرياً لا تكفي حتى لأجرة المنزل الذي كان يقطنه مع أسرته إلى جانب تخصيص حصة غذائية أسبوعية من الجمعية نفسها لتسد الرمق، وكان يحصل على حصص غذائية أخرى من جمعيات خيرية أخرى في مدينة دمشق.
وفي الوقت الحالي تقوم جمعية القابون الخيرية بالاهتمام بالسيد وليد وخصصت له راتباً شهرياً وتقدم له حصصاً غذائية وتتكفل بدفع معظم الفواتير المنزلية المترتبة عليه. وشكر وليد فاعلي الخير الذين عملوا على تزويج ابنه على نفقتهم الخاصة.

- كان للسيدة روضة الهبول حياة جديدة بعد وفاة زوجها سنة 1998 ما اضطرها إلى تحمل مسؤولية تأمين تكاليف الحياة اليومية لها ولأطفالها الأيتام الخمسة، وأول ما استطاعت عمله مشرفة في إحدى رياض الأطفال مقابل 2700 ليرة سورية كانت تكفيها لأيام الشهر الأولى. وتتابع السيدة روضة حديثها عن أهل الخير من أبناء محلتها الذين لم يتوقفوا عن طرق باب منزلها في بداية كل شهر لتقديم ما يستطيعون عليه من مال وطعام.
وعن طريقة تدبيرها لمصروف المنزل أسبوعياً في ظل الوضع القائم لأسرتها قالت: «عندما أستلم النقود في بداية الشهر أقوم بوضع حصة فواتير الكهرباء والمياه جانباً وعدم التصرف بها إطلاقاً، ثم النزول إلى السوق وشراء مونة المنزل من السمن والزيت والغذائيات الأساسية، وعند الحصول على قطعة من اللحم أقوم بطهيها على عدة مراحل في أسبوع واحد أو لأيام عديدة». ولم تخف قيام أهل الخير بتقديم بعض الكساء لأولادها في المناسبات والأعياد....
وتحدثت عن المساعدات التي قدمها الباعة في حيها الكائن في منطقة القابون سواء في احتساب أسعار متدنية لمشترياتها من عندهم أم من حيث تخلي بعضهم عن الأقساط الشهرية المترتبة عليها.
بعد أن رفع مدير روضة الأطفال الراتب الشهري للسيدة روضة إلى 4000 ليرة سورية عمدت إلى الدخول في جمعية شهرية حصلت من خلالها على مبلغ جيد ساعدها بشكل كبير في الحالات الصحية الطارئة التي ألمت بأطفالها.
رغم ظروفها الصعبة تمكنت بعد وفاة زوجها من التقدم للشهادة الإعدادية بعد انقطاع طويل عن الدراسة تبعها التقدم مباشرةً للشهادة الثانوية ونالتها لتلتحق بعد ذلك بقسم رياض الأطفال في كلية التربية بنظام التعليم المفتوح حيث تقدم لها جمعية القابون الخيرية أقساط الجامعة أولاً بأول بغض النظر عن الراتب الشهري الذي خصصته لها الجمعية.
فقدت أم حسن زوجها منذ 11 شهراً وبقيت دون عائل مع ولدها البالغ من العمر 11 سنة وابنتيها الصغيرتين وكانت جمعية القابون الخيرية أول من بادر إلى مد يد العون لها بتأمين مبلغ مالي شهري لها ( 6000 ليرة سورية ) يكفل طعامهم وشرابهم وكساءهم وفواتير المنزل. وحالياً تقوم أم حسن بشراء حاجيات المنزل كل يوم سبت من السوق ونوهت بفاعلي الخير الذين قدموا لأطفالها كساء العيد خلال الفترة القريبة الماضية.
كما فقدت أم رامز زوجها منذ ثلاث سنوات الذي صارع المرض لسنوات أقعده فيها عن العمل فأصبحت الأسرة دون دخل مادي يعيلها، فبادرت الجمعية الخيرية إلى تسجيله ضمن نطاق رعايتها وصرفت له راتباً شهرياً وهذا الراتب مستمر حتى هذه الساعة.
وتقوم أم رامز بتدبير مصاريف المنزل عبر الحصول على مرتبات ولديها الصغيرين اللذين يعملان في تصليح السيارات فتقوم بوضع قسم من الراتبين جانباً لتكاليف الخدمة الإلزامية المقبلة عليهما وإعطائهما مصروفهما الخاص بهما كشابين لتتكيف بالبقية مع تكاليف الطعام والشراب واللباس والفواتير.

- في لقاء مع عضو مجلس الإدارة في جمعية القابون الخيرية أحمد الغربي قال: «منذ تأسيس الجمعية شكلنا لجاناً للتقصي عن الفقراء في منطقة القابون ودراسة أوضاعهم من أيتام وأرامل أو مطلقات أو عجزة ومرضى وتم تسجيل 400 أسرة من هذا النوع حتى الآن في الجمعية».
و حول الموارد التي تتلقاها الجمعية بين الغربي طريقة الحصول على المساعدات من فاعلي الخير والميسورين كما تتلقى الجمعية الخيرية من وزارة الشؤون الاجتماعية مبلغ 25 ألف ليرة سورية يتم تحويلها إلى حساب الجمعية سنوياً.
وتمنى الغربي على الجهات المعنية تشجيع أصحاب رؤوس الأموال والميسورين للمساهمة أكثر في دعم الجمعيات الخيرية مادياً مقابل حصول هؤلاء الداعمين على تسهيلات أكثر من قبل الجهات المعنية بالتخفيف مما يترتب عليهم سنوياً من ضرائب ودفعات مالية وغيرها شريطة أن تتوجه هذه الأموال إلى العمل الخيري أياً كان مصبه، لأنها في النهاية ستصب في مصلحة المجتمع.
وبين الغربي التأثير الإيجابي والبناء للعمل الخيري الذي يمنع الكثيرين من الانحراف وسلوك الطرق الملتوية نتيجة الفقر والعوز.

- تتسع فئة أصحاب الدخل المحدود وتشمل شريحة واسعة من المجتمع السوري ويمكن تعريفهم بأنهم من يتقاضون مرتبات شهرية سواء من القطاع العام أم الخاص أم من أصحاب المصالح الخاصة البسيطة التي تدر عليهم سنوياً مبلغاً محدداً من المال يزيد أو ينقص عن المرتبات السنوية التي يتقاضاها الموظفون.
سمير وهو أحد العاملين في قطاع الكهرباء المعيل الوحيد لأسرته المكونة من زوجة وثلاثة أبناء اثنين منهم في المدرسة، يتقاضى سمير 10 آلاف ليرة سورية شهرياً يحاول من خلاله تأمين الحصة الأكبر من الطعام والشراب من المؤسسة الاجتماعية المقامة في منطقته نظراً لأسعارها القريبة جداً من قدرته الشرائية، ويضطر - على حد قوله - إلى تأجيل دفع الفواتير المنزلية المستحقة التي يتزامن صدورهن مع بعض المناسبات السنوية كافتتاح المدارس والأعياد لما يرافقها من مصاريف إضافية لا يقدر مرتبه على الإيفاء بها معاً.
يشكر سمير اللـه ويحمده على نعمه ولكنه لا يخفي امتعاضه من عدم التكافؤ بين تكاليف الحياة اليومية وبين مرتبه المتدني وخصوصاً مع قدوم فصل الشتاء واضطراره لشراء كمية من المازوت يقي بها أسرته برد الأسابيع الماضية بعد أن استدان ثمنها من والدته التي تدخر حفنة من فئة الألف ليرة سورية في بيتها ريثما يتم صرف المبالغ المخصصة للدعم.
ولا يختلف حال سمير كثيراً عن حال زياد زميله في الوظيفة إلا أن زوجته موظفة وتتقاسم معه معظم تكاليف الحياة المعيشية بحلوها ومرها وهو ما يضفي على حياتهما فسحة وهامشاً صغيراً من الراحة المادية يتم ملؤها بالذهاب إلى مراكز تسوق متوسطة المستوى وارتياد المطاعم الشعبية بين الحين والآخر. ومع ذلك يلاحظ زياد عدم تناسب دخل الأسرة مع تكاليف معيشتها...
هناك فئة كبيرة من الأسر ذات الدخل المحدود التي تسكن في بيوت مستأجرة الأمر الذي يزيد من النزيف في خاصرة الموارد المادية الشهرية لها ويسهم في حبسها تحت سقف محدد لا يمكنها النفاذ منه بسهولة.

المصدر: الوطن السورية

التعليقات

وطني وإن شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...