الحوار المحتمل بين داروين ورواية «موبي ديك»
ما العلاقة بين رواية هنري ملفيل «موبي ديك» (1851) وكتاب تشارلز داروين: «أصل الأنواع» (1859)؟ وكيف يمكن تفسير شخصية أو شخصيات روائية على ضوء نظرية تطورية تربط بين قدرة البقاء على الحياة والتكيّف مع الطبيعة؟
أتى ملفيل، في روايته، على ذكر عالمين بيولوجيين هما: جورج كوفييه ولويس أغاسيز، اشتهرا بنظريتين عن التطور في زمنه، سبقتا نظرية داروين. ومع أن في هذه الإشارة، كما في قرائن عدة أخرى، ما يدلل على اهتمام الروائي بعلوم الأحياء بعامة، وعلم البحار بخاصة، فإن المدخل الأكثر ملاءمة يتمثّل بشخصيتي الرواية الأساسيتين أهاب واسماعيل اللتين جسدتا في شكلين مختلفين، معنى «الاصطفاء الطبيعي» الذي قال به داروين: فقد عجز الأول عن التكيف مع معطيات الطبيعة وانتهى إلى الموت، بينما قرأ الثاني كتاب الطبيعة في شكل صحيح واستمر، مزدهراً، على قيد الحياة. ولعل النهاية الفاجعة للبحار المتغطرس، الذي أراد أن يخضع الطبيعة لإرادته، هي التي تجعل من نظرية داروين استكمالاً لنظرية كوبرنيك، وتعيّن رواية ملفيل مرآة لروح الأزمنة الحديثة. فبعدما طرد كوبرنيك الإنسان من مركز الكون وألحق الأرض بالشمس، نزع داروين عن الإنسان هالته المقدسة ونسبه إلى غيره من المخلوقات، مؤكداً ان بين المخلوقات جميعاً شبكة متداخلة من علاقات القرابة والنسب. أضاء ملفيل في روايته هذه الأفكار، حين جعل الحيوان البحري يأخذ بالبحار المتألّه إلى لجة الموت.
قال معظم المفكرين الأوروبيين، حتى نهاية القرن الثامن عشر، بما دعي بـ «سلسلة الوجود الكبرى» التي تمتد من الله نزولاً إلى الملائكة ومن المخلوقات النورانية إلى الإنسان الذي تتلوه عوالم الحيوان المختلفة هبوطاً إلى النبات والمعادن. تحايث هذه السلسلة، التي تتصف بالثبات، ثلاث مقولات: تقول الاولى بالتراتب، فلكل مخلوق موقع لا يتجاوزه، وتؤكد الثانية استمرارية المخلوقات في تراتبها الصارم، وتعلن الأخيرة عن امتلاء الكون، فلا فراغ بين المراتب، ولا حاجة الى مخلوقات جديدة تضاف إلى ما هو معطى وموجود. يدور الكون في مراتبه المختلفة ساكناً ممتلئاً، مطمئناً، «فليس في الإمكان أفضل مما كان»، بلغة الفيلسوف الألماني لايبنتز.
ومع أن في ثبات هذه السلسلة ما يوحي بالكمال، فالنقص دائماً مرجع التغير، فقد جاء علماء بيولوجيون، ومنهم «لا مارك»، زاوجوا بين المخلوقات الثابتة والنزوع إلى الكمال، على اعتبار أن التطور يخترق المخلوقات جميعاً، بتطور الإنسان، وهو سيد المخلوقات، ناظراً إلى الله، ويتطور ما تبقى ناظراً إلى الإنسان، ويتطور الكون كله معلناً عن الجمال الإلهي. انطوى هذا التصور، الذي رفضه داروين، على أبعاد ثلاثة: نصّب الإنسان إلهاً على الأرض، طالما أنه يسير إلى كمال أكيد وأن ما خارجه يدور حوله، ورأى في ما خارج الإنسان مخلوقات حسنة الانضباط وجيدة التصميم، تنمو وتتطور محتفظة بالفروق الفاصلة بينها، كما لو كانت آلات يسعفها عقلها الداخلي ويدعمها عقل خارجي. أما البعد الثالث فيتمثّل بمسؤولية الإنسان عمّا خارجه، فهو يشرف عليه وينظمّه ويقوده إلى الموقع الملائم. ذلك أن الإنسان مخلوق نوعي أوكلت إليه هندسة الكون، السائر إلى كماله. أعلنت هذه الأبعاد عن «مركزية الإنسان» في الكون، أو عن «المركزية الإنسانية»، التي تجعل الإنسان قمة أرضية في سلسلة الوجود الكبرى، لا تنظر إلا إلى السماء.
تقدم سفينة القبطان «أهاب» في رواية موبي ديك، على ضوء هذا التصور، صورة عن عالم ما قبل - دارويني، مركزه بحار يضع ذاته فوق الجميع، يأخذ بلغة آمرة قاطعة، ويسوس بحزم أنماطاً متفاوتة من البشر، يعبّرون عن الفاعلية الذهنية والخبرة العملية والقوة العضلية، وصولاً إلى الإنسان «المتوحش» المغطى بالوشم، والذي يقترب من «الإنسان المتحضر»، متوسلاً «لباساً متحضراً». يسوس «أهاب»، الذي تشي ساقه المبتورة بعطبه، عالماً تراتبياً ساكناً واضح الفروق، ويعمل بجهد على الحفاظ عليه من دون تغيير، ويحاول، إلى تخوم الهوس، أن يقنع ذاته وغيره بأنه قادر على خلق عالم آمن محصّن بالنظام. وعن هذه الرغبة الجامحة بكوْن ساكن يعمره الأمان، تصدر كراهيته الشديدة لـ «الحوت الأبيض»، الذي يجاور «الكون الساكن» ولا يمتثل إلى إرادة سيده. يعلن الحوت، الذي لا يمكن التنبؤ بحركته ولا تعيين مكانه، بأن سيطرة «أهاب» ناقصة، وأن طموحه إلى السيادة الكاملة منقوص، وأنه قادر على تحديه وتكديره والعبث بحسبانه. فهذا القبطان، المتمركز حول ذاته، يسيطر على سفينته بجهد قليل ويعجز عن اصطياد الحوت والتخلص منه. وكلما عجز عن بلوغ مراده اجتاحه خوف عميق، وهزّه عصاب مرهق يخبره أنه مجزوء الأمان والسيادة.
يعلن «الحوت الأبيض» عن فساد المنظور التطوري اللاهوتي، القائل بتراتب صارم يعيّن الإنسان سيداً على الأرض، وعن أوهام الفروق الكاسحة التي تعتبر الحوت مخلوقاً سهلاً زهيد القيمة. جسّد «أهاب»، روائياً، مقولة الإنسان السائر إلى كماله، التي قال بها عالم الأحياء «أغاسيز» مخبراً عن تهافتها، دافعاً بالبحار المتغطرس إلى مفارقة صاخبة: فهو يعتقد، من ناحية، أنه كامل في تطوره، وأن تطوره الكامل يشدّه إلى أعلى ويبشرّه بألوهية قريبة، وهو مجبر، من ناحية ثانية، على النظر إلى الأسفل ومطاردة حيوان بحري يلوذ بأعماق البحار، لا يمكن اقتفاء أثره. تصيّره هذه المفارقة إلى شخصية عصابية تطارد لا مرئياً عصياً على الترويض. يشدّ «الحوت الأبيض» بصر «أهاب» من الأعلى إلى الأسفل، ومن اللامرئي الإلهي إلى لا مرئي «زهيد»، كما لو كان الحوت الماكر قد أصبح إلهاً، أو التبس بصورة إله شرير. يخسر «أهاب»، في هذه المطاردة، مركزيته، وتتبدّد ألوهيته المفترضة، ويمضي في عصابه إلى أن يدمّره الحوت ويدمّر عالمه كله، باستثناء إسماعيل.
انطفأ «اهاب»، من وجهة نظر داروينية، لأنه لم يستطع التكيّف مع الطبيعة ولم يفهم قوانينها، واستمر «إسماعيل» في الحياة، لأنه رأى ذاته مخلوقاً بين مخلوقات أخرى، من دون مركزية أو تراتب. تداعى الأول مع مركزيته الصلبة المتكلسّة، وبقي الثاني، في نهاية الرواية، حياً يبشر بعالم جديد، بعد أن تآلف، طليقاً، مع أنواع المخلوقات المختلفة. بقي الأخير على قيد الحياة، بالمعنى الدارويني، لأنه انتمى إلى «شجرة الحياة»، قبلت به وقبل بها، فهو لم يذهب إلى البحر ليسيطر عليه بل ليذوب فيه، مبتعداً عن الآراء النهائية المتعالية، وسعيداً بعالم مائي غامض مملوء بالأسرار، عالم عذب ومبهر العذوبة، عاصف مروّع محتشد بالمألوف وغير المألوف. لم تكن مرونة إسماعيل، الذي تآلف مع الغامض واللامتوقع واللامنطقي، إلا امتداداً للبحر في تناقضاته المتعددة ومرونته المبدعة.
فعلى خلاف «أهاب» الذي ذهب إلى البحر مثقلاً بفلسفة الكمال والمراتب، قذف إسماعيل نفسه في تيار الحياة، مدركاً أن قياس الأرضي على السماوي مآله الكارثة، وأن المعرفة تأتي من معاينة المرئي الذي يسكن العالم، بعيداً من معادلات اللامرئي المرهقة. نبذ البحار، وهو الناجي الوحيد من الكارثة، ثنائية القبطان المستبد، التي تنفي كل وجه من وجوه الحياة بآخر، منتهية إلى خيار وحيد هو: «الانتحا». فالقول بالكليات القاطعة التي تقرّر الأعلى والأسفل والأول والأخير والناقص والكامل، إنكار لخصب الحياة واختزال للعالم المعقّد المتعدد الوجوه إلى عالم فقير أحادي البعد، يساوي عالم صياد الحيتان العصابي. ولهذا نحّى إسماعيل «ميتافيزيقا الوجود» جانباً، فلم يرَ الحوت رمزاً والبحر شبكة من الرموز، بل قرأ الطرفين متكئاً على المعاينة والإحساس والنظر، مستعيناً بـ «علوم أرضية» مثل: «التاريخ الطبيعي، وعلم وظائف الأعضاء، والفلسفة، الفن... وهذا المنظور، الذي ينقض اليقين وما هو قريب منه، فتحه على منظور تعددي لا يقبل بالفواصل الباترة، فالإنسان والحيوان يتداخلان، ولا جود لفارق أساسي بين المتوحش وغير المتوحش، ولا بين الإنسان المهذب وسمك القرش، مثلما أن «سلسلة الوجود» شبكة لولبية تتضمن أكثر من بداية وأكثر من نهاية. لا غرابة في أن يكتشف إسماعيل، منذ الليلة الأولى التي قضاها مع «المتوحش» في سرير واحد، أن جسديهما متداخلان: «شعرت بذاتي تندفع في شكل غامض نحوه». بل إنه رأى، على طريقة داروين، ان الفروق الحاسمة في عالم متغير أمر غير يقيني يفقر الحياة. ولعل هذا المنظور، الذي يبدأ من وقائع الحياة لا من شبكة الرموز والشعارات المسبقة هو الذي أخذ بيده إلى عالم المعرفة ومساءلة المخلوقات البحرية، فتعلم وارتقى واقترب من التصنيف وابتعد منه في آن.
«أهاب» شخصية سكونية، تتمركز حول ذاتها وتنبذ ما غيرها خارجاً، مزاوجة بين الاستبداد والثبات وعشق الذات والكراهية، و «اسماعيل» تعبير عن الحياة، في مرونتها وتعدديتها وتسامحها، وصورة عن فضول كريم سعيد يسأل الأشياء وتسأله الأشياء. ذهب الأول إلى جحيمه، وظهر الثاني كآدم جديد، يستضيف العالم في قلبه وعقله ويستضيفه العالم على مائدة متنوعة الألوان.
إذا كان في نظرية داروين ما يضيء رواية هيرمن مليفل، فإن في رواية «موبي ديك» ما يضيء الروح الإنسانية كلها، في كهوفها المعتمة وساحاتها المضيئة.
فيصل دراج
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد