الصومال .. إلى أين ؟
تتابع الأحداث في الصومال مؤخرا يجعل من الصعب معرفة المسارات التي ستأخذها في المستقبل، فتصريحات أطراف النزاع تحمل في طياتها تناقضات وتطرأ عليها تغيرات لا تكاد تثبت في موقف محدد، بل إن معظم التصريحات والقرارات تبدو تكتيكية أكثر منها مواقف إستراتيجية.
هذا المقال محاولة -قدر الإمكان- لقراءة ما يجري ورصد نقاط الضعف والقوة لدى الطرفين الرئيسيين في الصراع الصومالي حاليا. ثم ينظر في العوامل الخارجية ومسارات تحركها لرصد السيناريوهات المحتملة.
طرأ تغير كبير على موازين القوة في الصومال لم يكن موجودا خلال الفترة الماضية، فرغم وجود القوى الإسلامية على الساحة الصومالية منذ زمن وازدياد نشاطها منذ التسعينات بالتحديد، فإنها كانت تنشط في مجالات الدعوة والتعليم وتقديم الخدمات وحفظ الأمن إلى حد معين. ولكنها الآن برزت كقوة عسكرية وسياسية بقيادة "المجلس الأعلى لاتحاد المحاكم الإسلامية" وصارت يحسب لها ألف حساب.
كان الصراع بين أجنحة الحكومة امتدادا لصراعات مكوناتها قبل إنشائها، وغالبا ما تتحكم في توجهاتها المصالح الشخصية وليس المصالح العليا للبلد.
وينظر إلى هذا الصراع على أنه صراع قبائل على النفوذ والأرض والموارد، ويمثلها أمراء الحرب في مؤتمرات السلام. كان الشعب حينها غائبا عن الفعل السياسي ولم تكن لديه قيادة تحدوه إلى حلمه في تحقيق إرادته المستقلة بعيدا عن مصالح أمراء الحرب التي كانت لا تتحقق في نظرهم إلا بالارتباط بقوة خارجية. ولهذا كان همّ الشعب استقرار الأمور ومجيء أية حكومة تجنبه الويلات التي ذاقها خلال فترة الحرب الأهلية.
أما الآن فقد أصبحت المعادلة تختلف اختلافا جذريا ومن الواضح للعيان أن الصومال على مفترق طرق. والتطورات الأخيرة إما أن تقوده إلى سلام شامل وحكم مستقر يرضى به الشعب، أو إلى صراع من نوع جديد بين توجهين مختلفين: توجه يكتسب شرعيته من الشعب، ويستند إليه ويستمد قوته من إرادته لحياة كريمة غير مقطوعة عن جذوره وهويته الثقافية والحضارية. وتوجه يستند إلى معطيات الحرب الأهلية ومفرزاتها وما اكتسبه خلالها في مؤتمرات المصالحة والتسويات التي يبدو أن التطورات قد تجاوزتها الآن.
وممثلا الاتجاهين واضحان على الساحة السياسية الصومالية، وهما اتحاد المحاكم الإسلامية والحكومة الاتحادية. وكلٌ من المشروعين يسعى لإثبات وجوده في البلاد سياسيا وعسكريا، ولكليهما نقاط قوة يستند إليها ونقاط ضعف يحاول أن لا يؤتى من قبلها. فما هي نقاط القوة والضعف لدى الجانبين؟
الحكومة الصومالية التي شكلت من أمراء الحرب والموالين لهم أو الذين جاؤوا وفقا لموازين القوى والتجاذبات التي كانت سائدة قبل عامين، تعتمد قوتها في كونها الجهة الرسمية المعترف بها دوليا، كونها نتيجة مؤتمر مصالحة رعته أطراف إقليمية ودولية. ثم إن أعضاءها يمثلون جميع القبائل الصومالية التي تتصارع على السلطة.
ولكن الكثير من المراقبين الصوماليين يرون أن الحكومة الاتحادية المشكلة في نيروبي عام 2004 تحمل في داخلها الكثير من عوامل الفشل أكثر من عوامل النجاح، وتتعزز هذه العوامل مع تطورات الأحداث الأخيرة.
ومن بين هذه العوامل أن الحكومة تشكلت من زعماء حرب لا يبحثون عن مصالح الشعب بقدر ما يبحثون عن مصالحهم الذاتية. وهم في سبيل ذلك مستعدون لأن يرتهنوا البلاد ويرهنوا أنفسهم لجهات خارجية وينفذوا أجنداتها. وواضح أن أجندة هؤلاء الذين يشكلون نواة الحكومة الأساسية تتقاطع مع أجندة اتحاد المحاكم الإسلامية.
ومن بينها أيضا أنها ليست منتخبة من الشعب بل مشكلة على ضوء توازنات قبلية مع استبعاد لجهات معينة من المجتمع المدني الصومالي -ومن بينها الإسلاميون- بسبب سيطرة إثيوبيا المعروفة على مؤتمر السلام الذي انبثقت منه هذه الحكومة.
وهي بهذا تفتقد إلى التكنقراطيين وأصحاب الفكر السياسي أو المثقفين بشكل عام، وعليه فليس بإمكانها التخطيط لمستقبل الصومال وكيفية إخراجه من وضعه الحالي المتأزم. ويبدو ذلك واضحا من شللها حتى الآن وعدم قدرتها على الخروج بأي مشروع لإنقاذ الصومال رغم أنه قارب العامين.
ومن العوامل أيضا تقوقع الحكومة في مدينة بيدوه وعدم سيطرتها على معظم البلاد، فهي ضيفة على القبائل المحلية وأمراء الحرب فيها، وما إن تتغير المصالح وتتقاطع حتى تضطر إلى مغادرتها أو تنشب معارك بينها وبين القبائل المضيفة لها.
وليس مستبعدا انفراط عقد الحكومة في أول مواجهة تحدث بينها وبين اتحاد المحاكم. وهذا واضح من عدم رضا عدد من أعضاء البرلمان الصومالي الذين يجتمعون بشكل مكثف خلال هذه الأيام لإعادة النظر حول قرار الحكومة استقدام قوات أجنبية إلى البلاد. ويبدي هؤلاء تخوفا من هذه الخطوة ويمارسون ضغطا على الحكومة للحوار مع اتحاد المحاكم.
أما اتحاد المحاكم الإسلامية فيحسب له التفاف الشعب حوله وسيطرته على الكثير من محافظات الجنوب وقدرته على إحلال الأمن والنظام إلى قدر معين في المناطق التي سيطر عليها. ومن بين نقاط القوة لديه ما اكتسبه من الاعتراف به كطرف فاعل في شأن المستقبل الصومالي من القوى الدولية ومن بينها أميركا.
فقد استطاع الاتحاد خلال الفترة القصيرة أن يكسب احترام المجتمع الدولي برسائله السياسية التي بعث بها إلى القوى الفاعلة في العالم وإبعاد تهمة الإرهاب عنه إلى حد ما.
أما نقاط الضعف فمنها أن شعار الإسلام غير مرحب به كفاعل سياسي في الوقت الحالي على المستوى الدولي والإقليمي، وأن دعوى دعم الإرهاب يمكن أن تلصق أو ترفع عنه حسب مصالح الجهات الخارجية والداخلية.
ومنها أيضا أن الاتحاد بحسب تكوينه وبنيته الأساسية مكون من عشائر قبيلة "هوية" التي ينتمي إليها أمراء الحرب المهزومون أيضا. فقبائل مناطق النهرين "جوبا وشبيلي" ولا سيما "دغل وميريفلي" التي تستضيف الحكومة في بيدوه حاليا، وكذلك الأقليات في الجنوب ليست ممثلةً فيه حتى الآن، دعك من قبائل "دارود" التي تتركز في وسط الصومال و"دِرْ" في شمالها.
وهذا قد يظهره -أو هو كذلك فعلا- ممثلا جديدا لمصالح قبيلة "هوية" ولكن بوجهها الإسلامي لا القبلي. وسيجد صعوبة في استيعاب الأقليات وقبائل "دغل وميريفلي" لاختزان ذاكرتها المظالم التي تعرضت لها على يد "هوية" خلال الحرب الأهلية، واستمرار استيلاء بعض عشائرها على الكثير من المناطق التي ليست لها في الجنوب. ورغم أن اتحاد المحاكم كجهاز لا يتحمل هذه المسؤولية، فإنه سيصعب عليه -أو سيتطلب وقتا طويلا- إقناع الآخرين من غير قبيلة "هوية" بأنه ليس وجها جديدا لعملة قديمة.
وإذا أراد الاتحاد إقناعهم فإنه قد يتطلب منه اتخاذ إجراءات ضد بعض الذين استغلوا ظروف الحرب الأهلية للاستيلاء على أراضي الغير وممتلكاتهم وأكثرهم من القبائل التي تساند الاتحاد حاليا. وإن كان مثل هذا الإجراء سيظهر للصوماليين مدى جدية الاتحاد في تحمل أعباء الشعار الذي يرفعه، فإنه أيضا سيكلفه الكثير وقد يؤدي إلى التناحر بين قبائل الهوية نفسها.
وما لم يتخذ الاتحاد هذه الخطوة فسيصعب إقناع الأقليات المغتصبة أراضيها وممتلكاتها وقبائل "دغل وميريفلي" لتنضوي وتحارب تحت لوائه. ومن الصعب في الصومال تجريد الذات عن الموضوع في المسألة القبلية التي تدخل في كل صغيرة وكبيرة.
ويعتمد توجه الصراع أو التصالح بين اللاعبين الأساسيين الآن على مدى نجاح القوى الخارجية في الضغط عليهما للجلوس إلى مائدة التفاوض وتقديم التنازلات حتى يتم إنقاذ الصومال من حرب إذا استعرت ستعيد معاناة الشعب من جديد.
ويبدو أن هناك محاور بدأت تتشكل على المستوى الإقليمي والدولي تسعى إلى فعل شيء، ومن بينها ما لا يزال في طور التريث والترقب ولم يتجاوز إلى منطقة الفعل لعدم وضوح الرؤية لديه، كما أن من بينها أطرافا تريد الاستفادة من الوقت وتكاد تسرع في ضرب الحديد قبل بروده.
زاد الاهتمام الدولي بالصومال بعد انتصار اتحاد المحاكم وهزيمة التحالف، كما اختلفت أدوار بعض القوى ولا سيما الغربية والأميركية. فالولايات المتحدة يبدو أنها أيقنت أن سياستها في محاربة الإرهاب في الصومال كانت خاسرة وعقيمة، فبدأت تعيد ترتيب الأوراق ولكنها هذه المرة نأت عن غطرستها والتصرف بشكل منفرد، وكان إعلان إنشاء مجموعة اتصال دولية حول الصومال أولى خطواتها.
وضمت المجموعة المستعمرين القدامى من "أوروبا العجوز" إضافة إلى النرويج والسويد ودولة شرق أفريقية "تنزانيا". واستبعدت إثيوبيا الحليف الإستراتيجي للولايات المتحدة في المنطقة، كما لم تحظ الجامعة العربية حتى بدور المراقب الذي حظيت به الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي.
أما الاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد) فيبدو أن إثيوبيا هي التي تسيطر على توجهاتهما بشكل عام، رغم وجود بعض التباينات بين دولها حول السياسة اللازم اتباعها حاليا.
وفي الاجتماع الأخير الذي عقد في أديس أبابا تقرر إرسال فريق إلى الصومال في أقرب وقت لتقييم الوضع والتمهيد لإرسال قوات حفظ السلام التي طلبتها الحكومة الصومالية.
ويبدو أن إثيوبيا تدفع الاتحاد الأفريقي والإيغاد إلى دعم الحكومة الاتحادية والتدخل العسكري السريع للحد من المد الإسلامي والتنسيق بشكل جيد مع الدور الغربي.
وقد تنجح في إقناع مجموعة الاتصال التي شكلتها أميركا من اتخاذ نفس المسار، رغم تحفظ الكثير من الدول الغربية في الوقت الحالي من ممارسة الضغط العسكري الذي قد يؤزم الأمور. فقد علمت أميركا أن محاربة الإرهاب في الصومال لن يتحقق "بالفوضى الخلاقة" لأن ذلك قد يجعلها أكثر أمانا للإرهابيين، لهذا ستسعى إلى جعل الصومال مستقرا سياسيا ولو ببعض التنازلات لاتحاد المحاكم.
ولإثيوبيا دور خاص وغير خاف وتحاول استخدام وتوظيف الجهود الدولية لخدمتها، وهي تسعى أكثر إلى التصعيد ودق إسفين بين المحاكم الإسلامية والحكومة الاتحادية لأنها ترى أن المحاكم إن استثمرت نصرها الآن لجر الحكومة إلى تقديم تنازلات من موقع القوة الذي تتمتع به حاليا فستصبح قوة سياسية يستند إليها الإسلاميون في المستقبل لحكم البلاد.
لهذا فقد بدأت في حشد القوات على الحدود وقامت في بعض المناطق بالتوغل في أراضي الصومال منتهكة سيادته. والحكومة الاتحادية تثق في إثيوبيا وتعتمد عليها بسبب رئيس الحكومة ورئيس الوزراء اللذين يعتبران من أشد الموالين لها على المستوى الصومالي وقد وصلا إلى موقعيهما بفضل دعمها لهما في مؤتمر المصالحة الأخير. وهناك أنباء تشير إلى وجود مستشارين سياسيين وعسكريين إثيوبيين يعملون مع الحكومة في بيدوه.
ويبدو الدور العربي -كما كان دائما- باهتا لا شكل له ويعمل على استحياء، وتعمل دوله على انفراد وبدون تنسيق بينها مع الأطراف الأخرى. واقتصر هذا الدور في البداية على اليمن الذي يظهر أن الجامعة العربية ائتمنته على ملف الصومال نظرا لقربه الجغرافي منه، كما بدأت تدخل على الخط قطر وبعض دول الخليج بينما تغيبت الدول ذات التأثير في الجامعة مثل مصر وسوريا.
وواضح من لغة الخطاب الإعلامي الذي يتبادله الاتحاد مع الحكومة في الأيام الأخيرة أن إثيوبيا في طريقها إلى النجاح في مسعاها لتوتير العلاقة وتطويرها إلى حرب بين الحكومة والاتحاد.
لذا يبدو أن بوادر الصراع بفعل الضغط الإثيوبي أكثر من فرص الاتفاق بينهما. ولكن يبقى أنه لا يزال هناك متسع من الوقت للضغط على إثيوبيا والحكومة الاتحادية لوقف توتير الأوضاع.
ولكن هذا مرهون بمدى نجاح المحاور الأخرى في توجيه الأمور إلى الاتجاه الآخر. وإذا استطاعت الجامعة العربية -وهذا بعيد- في إنجاح المبادرة اليمنية قبل تدخل القوات الأجنبية، فإن الأمور ستسير إلى السلام والتفاهم وسينعم الشعب بالاستقرار. أما إذا نجح المسعى الإثيوبي -وهو المرجح- فسيدخل الصومال في متاهة جديدة لا يعلم مداها إلا الله، وستأكل الأخضر واليابس في الصومال، إن كان لا يزال فيه شيء أخضر.
محمد الأمين محمد الهادي
المصدر: الجزيرة
إضافة تعليق جديد