العالم يفتقد صحيفة لـومـونـد
عدد «لوموند»، المؤرخ 15 نيسان 2008 لم يصدر. الصحيفة الفرنسية الأكبر، لم تعرف، قبل الأمس، منذ أن أصدرها هوبير بوف ماري في العام 1944 انقطاعا واحدا عن الصدور، إذا ما استثنينا احتجابها في العام 1976 تضامنا مع صحيفة «فرانس سوار»، واحتجاجا على سقوط الزميلة في قبضة مجموعة «هرسان» التجارية.
وشهد المؤرخ باتريك ايفنو، أن هيئة تحريرها، أضربت عن الكتابة للمرة الأولى في تاريخها، الذي شهد تهديدين بالإضراب لا أكثر. وعاشت جادة «أوغست بلانكي» في الدائرة الرابعة عشرة من باريس، إضرابا لم يشهد له مثيلا، رغم أن الجادة التي تحيي اسم «الفوضوي الثوري الشهير»، كانت ولا تزال، نزهة كل المسيرات والاحتجاجات التي تعبرها، تحت المكعب الزجاجي الضخم، حيث كانت تكتفي «لوموند»، باستراق النظر، خلف بلوره السميك، إلى نبض فرنسا الحية، وتقلبات أمزجة جمهورها، قبل أن يغادر صحافيوها مكاتبهم إلى «أوغست بلانكي» ورصيفها، للانضمام إلى ذاكرة الاحتجاج.
الصحافيون والعاملون في المؤسسة الإعلامية الفرنسية الأعرق، رفعوا في التجمع الممتد من رصيف الجادة، وحتى قاعة الاستقبال الكبرى، لافتة واحدة «لا لخطة إريك فوتورينو»، وهو رئيس مجلس الإدارة الذي قدح شرارة الاحتجاج، عندما عرض حلا لأزمات «لوموند»، غير قابل للتفاوض: فصل تسعين صحافيا، وأربعين تقنيا، وبيع بعض امتيازات مجموعة «لوموند» من صحف وأسبوعيات خاسرة، ومفلسة، كي تعتدل مسيرتها، وتتوازن ماليتها في غضون عامين.
الصحيفة تشهد منذ سبعة أعوام متتالية، خسائر لا قاع لها. 150 مليون يورو من الخسائر المتراكمة. ومحاولات فاشلة لتعويضها، بعد توسع كبير في ظل إدارة رئيس تحريرها السابق جان ماري كولومباني، الذي أثقل الصحيفة الأم بالديون، بشراء صحف أخرى كان الغرض منها تحويل «لوموند» إلى مجموعة رأسمالية وتجارية كبيرة، تحميها من غزو الرساميل الصناعية التي مدت يدها للسيطرة على الصحف الكبرى، والتحول إلى منافس، في سوق شهدت في التسعينيات تركيزا متزايدا، للصحف ووسائل الإعلام الفرنسية، في أيدي أربع مجموعات تجارية وصناعية كبرى.
وهكذا، اضطرت الصحيفة الشيوعية «اومانيته»، كي تبقى حية، إلى ابتلاع المر، وطرح أسهمها في البورصة. واستنجدت هيئة التحرير «الماوية» واليسارية في «ليبراسيون» بالمصرفي الشهير إدوارد دوروتشيلد، ليشتري 37 في المئة من رأسمالها. ويملك صانع الطائرات وبائع الأسلحة سيرج داسو 70 صحيفة، بينها «لوفيغارو» و«الاكسبرس». واشترى تاجر السلاح آرنو لاغاردير،47 صحيفة ومجلة، منها «باري ماتش».
ويمكن التساؤل، في ظل التحول الجاري، مع هيئة تحرير الصحيفة عن مستقبل التنوع، وحق النقد، وحرية الصحافة.
والأزمة التي تعيشها صحيفة يسار الوسط الفرنسي، ستجبرها على تنازلات كثيرة. الأزمة بنيوية وليست عابرة. فالصحف اليومية الفرنسية، التي كانت تبيع إصداراتها الـ28 حتى السبعينيات، ستة ملايين نسخة، لم تعد توزع الـ11 صحيفة الناجية منها، أكثر من مليوني نسخة يوميا. وهي أزمة مرشحة للتفاقم، فلا قبل للمكتوب أن يقاوم جاذبية الإنترنت، التي أضافت العام الماضي 5 ملايين موقع، كما أن الصحف المجانية، بدأت تتنوع وتتخصص، وتتسع، وتجتذب جمهور الصحف الكبرى.
ولن يكون بوسع «لوموند»، رفع سعر النسخة، لأنها تعتبر الأغلى في العالم، كما أن خفض كلفة الإنتاج سيكون شاقا، وقد فقدت مراكز التوزيع 400 نقطة بيع العام الماضي، أما سوق الإعلانات فإلى انكماش مستمر.
ولا هامش للمناورة أمام المضربين، لإنقاذ المفصولين. وهيئة التحرير التي تعتبر، مع 43 في المئة من رأسمال «لوموند»، المساهم الأكبر في رأسمال الصحيفة، لن يكون بوسعها، أن تستخدم حق النقض، لوقف عمليات الفصل، لأنها مع امتلاكها الكتلة الأكبر من الأسهم الاسمية، إلا أنها غير قابلة لتحويلها إلى تمويل، للتعويض عن الخسائر، من دون العثور على ممول خارجي يقبل بالتعويض عن العجز، من دون تنازلات لا بد منها، وعمليات فصل لتخفيف الأعباء.
ورغم العجز المالي «للوموند»، إلا أنها تبقى مغرية مع 350 ألف نسخة يومية، ومرجعية إخبارية، وثقافية ومؤسساتية لا تجارى. والاحتمال الأقرب للتحقق، الذي يهدد استقلال الصحيفة الفرنسية الكبرى، هو أن تقوم مجموعة «لاغاردير»، صانع وبائع الأسلحة، و«بريسا» الاسبانية مالكة «ألباييس»، بالقبض عليها عندما تستحق ساعة سداد ديون الصحيفة بعد عامين، إذا عجزت «لوموند» عن شراء سندات الأسهم، التي تملكها المجموعتان، في رأسمالها. وسيعود العاملون إلى اجتماع عام في «أوغست بلانكي»، غدا لتقرير مستقبل الصحيفة.
محمد بلوط
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد