العرب والمجتمع المدني
من المعروف أن المجتمع المدني ذوجذور غربية ليبرالية، وهذا ما جعل تكيفه مع الفكر العربي المعاصر عسيراً إلى حد ما، لا بل إن المفهوم ما زال يكثفه الغموض إلى درجة أن بعض دعاته يسقطون عليه مفهوم الحزب السياسي. كما أن الدولة العربية من جهتها، وبصورة عامة، لم ترحب بفكرته. فهي بإرثها الاحتكاري، وهيمنتها على المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي، تمنع أوتعيق أية مؤسسة مستقلة ترغب بالنشاط في هذه المجالات الرئيسية. لذلك كانت العلاقة بين الدولة العربية والمجتمع المدني يسودها غالباً التوتر والنزاع أو الود المفقود على أبسط الأحوال.
تعرف العرب عموماً على مفاهيم المجتمع المدني وعلاقته بالدولة بعد أن قضت الأخيرة أو كادت على المجتمع المدني وحذفته... وبالتالي باتت المجتمعات العربية عاجزة تماماً عن الفعل والتأثير. وهذا ما أدخل العالم العربي في حالة من اللامبالاة في الشأن العام. ولم تعد هذه المجتمعات تسأل عن المستقبل بقدر ما يهمها العيش وسبل تأمينه. من هنا بدأت ترى المجتمعات العربية في مفهوم المجتمع المدني تعويضاً عن غيابها السياسي (أو تغييبها) وعدم حضورها الاجتماعي بحكم سنوات الاستبداد الطويلة وأحكام الطوارئ وغيرها من مظاهر سطوة الدولة.
وراج مصطلح المجتمع المدني في الأدبيات العربية في وقت متأخر. ورافق هذا المجيء المتأخر التباس واضطراب كبيران بسبب طبيعة الفكر العربي في تعامله مع المفاهيم وفق رغبته الخاصة، مما حول المفهوم إلى صراع على التوظيف السياسي بين مختلف التوجهات السياسية الراغبة في مواجهة الدولة الشمولية، أوالبنى المجتمعية التقليدية بمختلف أشكالها. ففي حين رأى بعض هذه التوجهات أن المجتمع المدني نقيض المجتمع الديني اليثوقراطي، حيث تزعم السلطة السياسية فيه أنها تستمد شرعيتها من السماء، رأى آخرون أنه نقيض المجتمع الشمولي الاستبدادي، وكذلك نقيض المجتمع القبلي أوالطائفي. كما رأى غيرهم أن الأصل الغربي لمفهوم المجتمع المدني يجعله غير صالح لمجتمعنا العربي الإسلامي أو أنه من مفاهيم الموضة!
اعتبر الفكر الليبرالي المجتمع المدني بمثابة الوسيط بين المجتمع بمختلف شرائحه وبين الدولة، ورأى بعض المفكرين الغربيين أن للمجتمع عينا فاحصة ومستقلة، وهذه العين هي مجموعة واسعة من الجمعيات المدنية اليقظة المنظمة ذاتياً. وهي ضرورة لازمة لدعم الديموقراطية وتحقيق أهدافها عن طريق إشراك نسبة من المجتمع في مراقبة الدولة. أي أن الأمر لا يقتصر على الأحزاب السياسية بل يشتمل بالإضافة إليها على مؤسسات اجتماعية ومهنية وتعليمية ونقابات ومواد ثقافية واجتماعية تمثل طيفاً واسعاً من السكان المثقفين والناشطين. بمعنى آخر نجد أن المجتمع المدني يراقب الدولة عن طريق مؤسساته، فيما ترعى الدولة المجتمع المدني وتحافظ على استقلاليته. ومن نافلة القول ان الدولة ذات المؤسسات الديموقراطية هي التي تستطيع أن ترعى هذا التوازن، أما الدولة الشمولية المحكومة بخط عقائدي وحيد فلا ترى في المجتمع المدني ومؤسساته إلا عاملا واحداً يهدد أمنها واستقرارها، أو منافساً لسلطتها. وبالتالي فهي تخشاه وتضعه باستمرار تحت السيطرة والمراقبة، مما يمنع مؤسسات المجتمع المدني من القيام بنشاطاتها المستقلة، ويحجب عنها دورها الفاعل.
من المؤسف أن العلاقة بين الدولة العربية عموماً، والمجتمع المدني، علاقة ما يزال يسودها التوتر والتخاصم، وبالتالي فهي علاقة صراعية، بدلاً من أن تكون علاقة توافقية ناضجة. وخلافاً لذلك نجد أن هذه العلاقة تصالحية بين الدولة والمجتمع المدني في الغرب. وكأني بالدولة العربية عموماً تجد في المجتمع المدني ومؤسساته منافساً لها ولسلطتها، في حين أن هذا المجتمع يقوم بعبء كبير عنها دون أن يكلفها شيئاً يذكر. والحق أن مفهوم هذا المجتمع ما يزال يتسم بالضبابية حتى عند بعض من يروجون له! ولا يسعنا هنا إلا أن نشير إلى الغرب وتحديداً الدول ذات الديموقراطية الرفيعة التي تعتبر المجتمع المدني عيناً فاحصة ومستقلة تضم مجموعة واسعة جداً من الجمعيات المدنية المتنوعة واليقظة التي تعتبر دعم الديموقراطية وتحقيق غايتها.
هشام الدجاني
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد