المعنى والدلالة في أطروحة «هيرش»
شهدت خمسينيات القرن الماضي نشاطاً نقدياً واسعاً لم يعد معه الانشغال بالأدب معزولاً عن ضرورات التبصّر العميق بالنظرية الأدبية، بفعل ما راكمته الإنجازات البحثية المتوالية في تلك الفترة. ويمكن الإشارة، على هذا الصعيد، إلى عمل ويمزات وبروكس في التأريخ للنقد الأدبي، وإلى عمل رينيه ويليك في تاريخ النقد الحديث. ويأتي في هذا السياق عمل نورثروب فراي المهمّ الموسوم ب(تشريح النقد)، وقبله كتاب ابرامز (المرآة والمصباح)، وكتاب (نظرية الأدب) ل أوستن وارين ورينيه ويليك ... إلخ.
والحال أن هذه الجهود المنصبة على النظرية الأدبية وتاريخها أنتجت معتركاً احترافيا، وفتحت أبواب التعددية النقدية، وأطلقت سبل القراءات، وغذّت اختلاف المداخل ووفرة التأويلات. وعلى سبيل كبح هذا الجموح النقدي المفتوح، الذي بدا لبعضهم أنه يهدد بنزعة لا أدرية يمكن أن ينتهي إليها مع طغيان تيار النسبية الذي يحفزه ويتمخض عنه.
وضع هيرش كتابه (الصلاحية في التأويل) علم 1967 م، مواجهاً به تلك الاندفاعة التأويلية التي تُسلم، برأيه، إلى شيء من غياب المعنى وانعدام التحديد؛ ولذلك وجّه عنايته إلى البحث عن الكيفية التي يمكن، من خلالها، استعادة المعنى الذي قصده الكاتب، وهو توجّه يتوخى الحدّ من تفاقم التأويلات وانفتاحها المطلق الذي يقود إلى نزعة نسبية تتفلّت من كل الضوابط، وتبدّد إمكانية تحديد أي معنى نصي. وربما كانت النزعة المشار إليها، في نحوها هذا، تجد مرتكزاً لها في مقولة إليوت السابقة عن (اللاشخصية) impersonalite من جهة، وكذلك في ما نجم عن القول ب(المغالطة القصدية) ل ويمزات وبيردسلي فتقوي انطلاقتها بهذا المجرى، في الوقت الذي تعمل فيه على مدّه وتضخيمه.
يقترح هيرش العمل على التمييز بين المعنى الأصلي (الذي قصده الكاتب) والدلالة أو الدلالات التي يمكن أن يكتسبها النص لاحقاً في مجرى التلقي وتوالي القراءات. وعلى هذا الأساس يتقرّر أن يبقى المعنى ثابتاً في مقابل تغيّر الدلالة. وإذا كان هذا المقترح يكشف عن مسعى هيرش لتقليص التعدد الاحتمالي اللامحدود لأفعال القراءة والتأويل، فإنه في الوقت نفسه يفصح عن قناعته باستحالة الوصول إلى المعنى الأصلي بصورة قاطعة أو بيقين مؤكد، لكنه، مع ذلك، يتابع نهجه على أمل حصر الإمكانات والترجيح بينها، وصولاً إلى تغليب القول بمقصد الكاتب على أساس الاستهداء بالقرائن المختلفة التي تؤطر عمله. وعلى الرغم من انتفاء إمكانية الحسم، فإن المقترح النظري الذي يتقدم به يُبقي على المعنى في ثباته واستقراره، من حيث هو قرين قصد المؤلف المحدد بزمن الكتابة، بينما يتيح للدلالة أن تتغيّر من حيث هي قرينة الأزمنة المختلفة للقراءة والاستقبال.
المعنى والدلالة
في كتابه الموسوم ب(قراءة التراث النقدي) 1992 م، يتوقف د. جابر عصفور عند اقتراح التمييز بين المعنى والدلالة، ويتولّى عرضه على محكات النظر النقدي، من ضمن ما يأتي عليه من أسئلة البحث النظري وإشكالياته النقدية المتصلة بالكلام على نظرية القراءة، فيوضح مزالق هذه الثنائية المترتبة على إجراء التمييز بين المعنى والدلالة، ويبيّن ما يلزم عنها من افتراض القول بمعنى ثابت لا يتبدّل ولا يتغير على اختلاف الأزمنة والثقافات، بل إنه يظل، في سياق حركة التغيّر التاريخي، معنى مطلقاً، متعالياً، معزولاً عن شروط صنعه، فضلاً عن شروط استقباله أو إعادة إنتاجه. ومن هذا المنطلق في التبصّر النقدي يذهب إلى فحص حدث القراءة وتسليط الضوء عليه، من حيث هو عملية معرفية اتصالية تتضمن كلاً من القارئ والمقروء والأنساق المعرفية التي تتوسط بينهما في علاقات التعيّن التاريخي، وتشملهما معاً بفاعليتها المزدوجة التي تتكشف عنها في توجيه حدث القراءة.
وفي هذا المنحى الخاص بالمعنى، يجدد الإشارة بالتنبيه على أن المعنى المتحصّل من ذلك الاشتباك لا يبقى هو نفسه في تغير القراءات وتعددها؛ لأن العلاقات بين العناصر المشكّلة للحدث هي علاقات متغيرة بتغير الوظائف، ومتبدّلة بتبدّل الأنساق، ومن هنا يفسّر انسراب التاريخ إلى حدث القراءة، وتدخّل الإيديولوجيا فاعلاً فيه؛ وبذلك يكون المعنى هو، في الوقت نفسه، من إنتاج القارئ والمقروء وتفاعلهما في مجال التوسط وتداخل الأنساق، وهو، أيضا، محصلة تنتمي إليهما معاً على المستويين الأنطولوجي والإبستمولوجي.
ما يتوخاه هيرش ، إذاً، من إيجاب التمييز بين المعنى والدلالة، سعياً إلى تقليص القراءات، أو تضييق دائرتها الممكنة، بتأسيسها على مركز دلالي وربطها به، تخوفاً من انفتاح مساراتها انفتاحاً مطلقاً يلغي الركون إلى أي معنى، ويجرّ إلى حالة من السديم يستحيل معها القبض على المعنى، هو توجّه لا مسوّغ نقدياً له من جهة، فضلاً عما يقود إليه من إقرار وضع أشبه بالفصام بين القارئ والمقروء، وبين المعنى والدلالة، وبين المقصد الثابت والاستقبال المتغيّر؛ ذلك أن نسبية القراءة لا تتعارض مع موضوعيتها، فيما يشير إليه جابر عصفور بنقده لأطروحة الفصل والتمييز، بل إن النسبية والموضوعية تغدوان وجهين ل(التاريخية) المحدّدة للحدث ولحظته المعرفية.
إن القول بتثبيت المعنى على نحو ما تنطق به دعوى التمييز عند هيرش هو أمر يتعطل معه كون المعنى حصيلة للتفاعل بين أبنية ومنظومات، أو بين قواعد وأنساق، وفواعل وموجهات، بها تتحدد قابلية النص في الاستجابة لفعل القراءة، كما تتحدد بها أيضاً إمكانات القراءة، وحدودها القصوى، ودوائرها المتعددة وليس اللا نهائية القابلة للضبط النقدي وفق هذا التصور الخاص بنظرية القراءة.
المصدر: السفير
وفيق سليطين
إضافة تعليق جديد