انهيار أخطر مخطط «داعشي» في قلب المنطقة الوسطى

06-04-2016

انهيار أخطر مخطط «داعشي» في قلب المنطقة الوسطى

تأخذك نسمات الربيع العليلة على طريق البادية السورية إلى ما يحكى عن صفاء الذهن وراحة النفس. كلما بعدت المسافة عن المدينة وصخبها، تُزيل تلك النسمات بطريقها كل ما يجول في رأس المتوجه إلى قلب جبهة المعارك من أخبار وتفاصيل عن الحرب التي باتت البادية أرضها، منذ سلبت الهوية السورية من أجزاء واسعة منها، وغدت من أراضي «الدولة الإسلامية».
يحاكي المسير على طريق صدد ـ القريتين عراقة أصحاب هذه الأرض بسوريتهم، التي تبدو واضحة بعمرانهم الأثري الناجم عن حضارات ولدت على هذه الأرض، وامتزجت بحضارات أخرى، وبقيت معالمها حاضرة لم تندثر.آثار الدمار في كنيسة مارليان للسريان الأرثوذكس في القريتين
ليست سوى بضع دقائق تمضي كحلم اليقظة حتى يعود العقل من جولته الجميلة في الزمان الغابر ليدرك واقع الحال. هي ذاتها نسمات الربيع تحمل عند الوصول إلى تل العقبة أو ثنية حمص رائحة دخان حرب ضروس جرت على أرض مدينة القريتين. وعلى مدخل القريتين يتبادل قادة الجيش السوري والمقاومة والقوى المؤازرة الذين خاضوا المعركة تبريكات النصر. ولا يُخفي تعبُ المعركة الضارية التي خاضها هؤلاء القادة ملامحَ فرحة هذا الانتصار.
وهج النار تحت رماد حرائق الحرب التي حطت أوزارها قبل ساعات يقودك للسير إلى ساحة القريتين وشارع السوق الرئيسي، لتظهر البيوت والمحلات التي صهرت النيرانُ بنيانَها وأذابت كساءها، وما زال بعضها يقف على هياكل وأخرى لا وجود لأساساتها بالأصل.
يصعب تحديد سبب هذا الدمار المرعب، حتى على من خبر بجولاته المدن والبلدات التي شهدت أعنف المعارك خلال الحروب، فقد اختلط دمار القصف الجوي والمدفعي والصاروخي والاشتباكات العنيفة المباشرة بدمار تفجير المفخخات التي زرعها تنظيم «داعش» في كل مكان منذ وجوده حتى انسحابه.
لكن الذي يمكن ملاحظته بوضوح هو تعمد «الدواعش» طمسَ معالم سوريَّةِ هذه المدينة في التعايش المسيحي ـ الإسلامي الأثري، حيث جهروا بهذا النهج في الأيام الأولى لدخولهم القريتين من خلال حرق دير مار ليان الذي يعود للقرن السادس الميلادي وهدم أجزاء منه، وما توضح بعد خروجهم من حرق وتدمير أجزاء من كنيسة مار ليان الشيخ للسريان الكاثوليك، وسرقة أيقوناتها الأثرية وكتابة الشعارات التكفيرية على جدرانها، ورفع راية التنظيم الإرهابي على قبة جرس الكنيسة بدلاً من صليبها الذي كسر.
الحذر هو سيد الموقف في كل خطوة داخل أحياء القريتين، فالعبوات لم تفكك بالكامل من شوارع المدينة. وترتبط حالة القريتين من ناحية التفخيخ وتشريك العبوات بحالة مدينة تدمر التي لم ينته بعد الخبراء الروس المختصون بهذا المجال من تفكيك عبواتها بشكل كامل. فكلتاهما كانتا تحت سيطرة «داعش»، وترتبط هاتان الجبهتان بروابط عدة على رغم بعد المسافة بينهما.
ويتحدث قائد ميداني، عن ارتباط القريتين بتدمر، من حيث قيادات «داعش» التي كانت تتواجد في المنطقتين، ومن حيث تعامل قيادة العمليات العسكرية في معركة إعادة السيطرة عليهما. ويقول إن «المعلومات التي توفرت لدينا عند بداية العملية في البادية تحدثت عن تعيين داعش فريقاً مشتركاً من القادة لمتابعة معركتي القريتين وتدمر. وموهت قيادة العمليات في الجيش السوري والمقاومة والقوى المؤازرة (كقوات العشائر ونسور الزوبعة ـ الحزب السوري القومي الاجتماعي وقوات الدفاع الشعبي) وجهة عمليتها وأهدافها في المنطقة، من خلال الحشد لمعركة القريتين قبل تدمر، ومرافقة الحشد العسكري بزخم إعلامي، فكانت كل المعطيات تشير لدى العدو أن المعركة باتجاه القريتين هي الخطوة الأولى، لكن الوجهة تبدلت فجأة بحسب الخطة الموضوعة من قبل قيادة العمليات العسكرية، ووضعت تدمر كهدف أول لحركة قوات الاقتحام».
وأضاف: «هذا الموضوع ساهم بشكل كبير بحسم معركة القريتين بعد إنجاز السيطرة الكاملة على تدمر، فالسيطرة على القريتين لو كانت هي الخطوة الأولى ما كانت لتؤثر كثيراً على مدينة تدمر التي كان يتواجد فيها كبار القادة في تنظيم داعش بالاضافة الى قواعد العمليات اللوجستية والتنظيمية. لكن كان لسقوط تدمر بيد الجيش وإعادة السيطرة عليها أثر كبير في قصم ظهر الدواعش في القريتين، حيث طوّرت القوات العسكرية المكلفة بمعركة القريتين في الوقت ذاته الذي كانت تتم فيه السيطرة على تدمر، عملياتها لتطبق بشكل قوس جنوبي غربي وشمالي غربي على المدينة، وتنتقل من معركة التلال التي أخذت الوقت والجهد الأكبر في العملية إلى حرب الشوارع داخل المدينة لتتم السيطرة الكاملة على القريتين».
وما إن مضت ساعات صباح اليوم التالي لتحرير القريتين حتى أنهت وحدات الهندسة العسكرية عملها الأولي بتفكيك العبوات من الشوارع الرئيسية للمدينة، لتدخل آليات الجيش لإزالة الركام وفتح الطرقات وتمشيط الشوارع الرئيسية، ومن ثم دخلت أفواج جديدة مؤازرة من التشكيلات العسكرية للتثبيت فيها، بعد أن تقدمت القوات التي اقتحمت المدينة إلى الجهة الشرقية والشمالية الشرقية حيث ثبتت نقاطها خارج القريتين لحماية نطاق السيطرة الجديد من أي محاولة خرق والإشراف على المعابر وطرق التحرك التي فرَّ عن طريقها الدواعش باتجاه بلدتَي الحفير وخنيزير والطريق الواصل إلى بلدة البصيرة، ومنها إلى السخنة».
ويكون السؤال دائماً بعد انتهاء كل المعارك التي تتصدر ساحة الميدان السوري، كما هو الحال في القريتين، ماذا بعد القريتين؟
 يرفض القادة الميدانيون تقديم إجابة مباشرة عن هذا السؤال، لكن أحدهم يرد بطريقة غير مباشرة، ويقول: «لا يمكن أن نتحدث عما بعد القريتين في الوقت الحالي، لكن في الواقع نحن نعتبر السيطرة على القريتين بحد ذاتها نهاية لمرحلة مهمة من العمليات، فالقريتين كانت هدفاً استراتيجياً ضمن المعارك الكبرى التي أطلقها الجيش السوري منذ بداية العمليات السورية ـ الروسية، بمشاركة المقاومة والقوات الرديفة والحليفة. هذا الهدف تحقق في النهاية بالسيطرة على القريتين، لكن البداية كانت من محيط صدد، فخسارة داعش للقريتين ليست خسارة لرقعة من الأرض يعتبرها عناصره من أراضي الدولة الإسلامية فحسب، فدخول الجيش السوري للقريتين يعني الانهيار الكامل لأخطر مخطط لداعش على قلب المنطقة الوسطى في سوريا، فالقريتين كانت قاعدة توغل التنظيم الإرهابي في ريف حمص الجنوبي الشرقي حيث سقطت بيده بعد القريتين حوارين ومهين والحدث وتلال الحزم، حتى وصل الدواعش إلى أطراف صدد التي كانت في بنك أهدافهم أيضاً، ما يعني أنه اقترب من حمص».
وأضاف: «كان الهدف وصل نطاق سيطرة داعش في هذا المحور بنطاق سيطرته في منطقة جباب حمد وبالتالي قطع اوتستراد حمص ـ تدمر، ما يعني قطع الإمدادات من مدينة حمص عن قوات الجيش السوري العاملة في مطار تي فور والعاملة في تدمر، وحماية حقول النفط والغاز (شاعر ـ جزل ـ حيان ـ جحار)، أي ما يسهل عملية التفاف على هذه الحقول التي تعد هدفاً مهماً جداً لإرهابيي داعش، بالإضافة إلى إمكانية التمدد باتجاه مدينة حمص وباتجاه القلمون الشرقي وصولاً إلى الحميرة وقارة وجرود رأس بعلبك، أي قطع اوتستراد حمص ـ دمشق أيضاً وخرق الأراضي اللبنانية. لهذا استطعنا، من خلال العملية المتكاملة، إيقاف التمدد الداعشي من محيط صدد مروراً بتلال الحزم ومهين وحوارين وصولاً إلى القريتين. إنه إنجاز استراتيجي وليس انتصاراً تكتيكياً ميدانياً، فمخطط داعش الكبير انهار بشكل كامل».
ساعات نهار يوم انتصار القريتين مضت سريعةً كالبرق، لتسرق الوقت من ملاحقة العدسات للتفاصيل في هذه المدينة التاريخية، التي طغى «داعش» على إرثها العريق، بخرابه ودماره وسواده.
يبدأ ستار الليل بالهبوط على القريتين لتكون أوامر قادة العمليات العسكرية بخروج الصحافيين من المدينة، ورفع الجاهزية القتالية في النظام الليلي للانتشار العسكري والحراسة، فتنظيم «داعش» يقوم عادةً بعمليات التسلل والخروق ليلاً.
يغيب قرص الشمس بين تلال البادية فيما يستمر وصول التعزيزات العسكرية أكثر فأكثر. يصعب الحصول من أي قائد ميداني على أي إجابة دقيقة عن وجهة هذه التعزيزات، واحتمال استكمال المعركة أو اتجاهها، لكن مشهد التعزيزات هذا هو ذاته الذي يتم في تدمر يومياً، وهو ذاته على الخطوط الأمامية لحقول النفط والغاز. ربما هو الجدار العسكري في قلب البادية الذي قد يكون الداعم لانطلاق القوات باتجاه الشرق، حيث اتصال ريف حمص الشرقي بريف دير الزور، أو باتجاه الشمال حيث اتصال ريف حمص بريف الرقة.

سيف عمر الفرا

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...