بين حياتين.. في حلب الشرقية والغربية

15-11-2016

بين حياتين.. في حلب الشرقية والغربية

«أقضي نهاري محاولاً تأمين لقمة العيش، هنا في حصارنا نعاني من شحّ في كل شيء، ومن نقص حادّ في الخبز، بل حتى يكاد أن ينعدم أحياناً». يتحدث الرجل الأربعيني القابع في حلب الشرقية تحت سطوة المسلحين والطوق المفروض على نحو 200 الف مدني.
يرفض الرجل الكشف عن هويّته. الخطر حقيقي وقائم على حياته وحياة أفراد عائلته.شاب سوري يزرع بعض النباتات على سطح منزله في الكلاسة في حلب الشرقية نهاية شهر تشرين الأول الماضي (أ ف ب)
لكنكم في خطر دائم. نسأل! فيأتي الرد، بلهجة حلبية محببة: «الموت بالقصف أحسن من الوقوع تحت رحمتهم لي يلي ما بيتسمّوا»، في إشارة منه إلى المسلحين الذين يعتبرهم «المسبب» الرئيس لما يكابده.
يضيف الرجل «أستيقظ يومياً في نفس الساعة، أجلس في البيت ولا أخرج منه حتى في الضرورات القصوى».
نحاول الخوض في التفاصيل اليومية أكثر ويكتفي هو بالقول «ما في تفاصيل أبداً، باركين تحت الدك والقهر وقيلة الحيلة».
يتابع ما بدأه «الجوع كافر.. صحيح أن الكلمة باتت مكررة، لكنها أفضل ما يمكن أن نقوله عندما نشاهد أطفالنا يبكون جوعاً وخوفاً».
أكثر ما يؤلم المدنيين في حلب الشرقية هو عدم قدرتهم على تأمين مأكلهم، فغلاء الأسعار يزيد من نكبتهم، إذ بلغ سعر كيلو السكر 6000 ليرة سورية (يساوي الدولار اليوم 540 ليرة) وليتر زيت المازولا 8500، دبس البندورة 2500، كيلو الزعتر بـ8000، وتُسعر أقل باكيت الدخان جودةً بـ10000 ليرة، وبلغ سعر كيلو اللحمة عتبة الـ15000 ليرة.
ويؤكّد الرجل انعدام وجود الكثير من المواد الغذائية مثل البيض وزيت الزيتون والخضار بكافة أشكالها.
تخطف الأم سماعة التلفون من ابنها لتقول، مرددةً كلماتها مرتين وثلاثاً: «العيشة زفت زفت.. غلا غلا فوق ما بتتصوري كلّ يوم، كل يوم بنزل على السوق العريض.. كلّ يوم بزيد السعر عن يوم اللي قبله، سعر كيلو السمنة بـ8000 ليرة اليوم، بكر أكيد بيغلا»، مضيفةً «بتفرج وما بشتري». ولدلو اللبن حكاية أخرى في حلب الشرقية تشبه حكاية جرة الغاز عند انقطاعها في باقي المدن السورية، تقول السيدة الستينية «تخيلي سطل اللبن بتسجلي عليه قبل بيومين عند السمان لحتى يجيك الدور هاد إذا كان فيه لبن».
لكن ماذا عن المعونات الغذائية التي تدخل، تردّ الأم «عم يسرقها الجيش الحرّ ويعطيها لعائلاته والناس المقربين منهم، وبيشرطو علينا دايماً يا منقاتل معهم يا أما بموتونا من الجوع».
وماذا تأكلون؟ تجيب: «عايشين عالشوربة والبرغل وأوقات منسلق عدس ومناكله».
وتحدّث مصدر من داخل الأحياء الشرقية عن موضوع المعونات، قائلاً إنه يتم توزيعها عن طريق التسجيل الذي يتطلّب كتابة أسماء جميع أفراد العائلة وأعمارهم، ولهذا رفضت الأم الستينية التسجيل للحصول على معونة، إذ إنهم ينظرون إلى أعمار أفراد العائلة من الذكور وإذا كانوا فوق الـ15 يتم سحبهم إلى الجبهات.
اعتاد أهالي حلب الشرقية الظلام، فالكهرباء يتم توليدها عن طريق «الأمبيرات»، «والأمبير الواحد بـ3000 ليرة» يقول الرجل، مضيفاً «أي من وين بدنا نلحق دفع!»، وأما المياه، فمتاحة باليوم نصف ساعة وتتجاوز تكلفة التعبئة الـ3000 ليرة.
لكن أكثر ما يضغط على الأهالي، هو نقص المواد الطبية وانعدامها أحياناً، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، سطوة المسلحين وتحكّمهم في مصائر البشر.
«سوريا كلها إلنا.. ما فينا نتركها رغم إنو صارتلنا فرص كبيرة»، مضيفة «ما بدنا ننزح بآخر عمرنا ولو كان التمن غالي»، هكذا تجيب الأم لدى سؤالها عن نظرتها لباقي سوريا. وعما إذا كان غرباء يعيشون معهم، يرد الرجل: «غرباء في كتير بس ما منشوفهم أبداً كلهم عالجبهات أو عالحواجز.. قليل ما يتجولوا بالأحياء السكينة.. وإذا صدفتهم ما بيتدخلوا فيك إلا في حال ارتكبت معصية ما». من وجهة نظرهم.
لكن الحكومة السورية أرسلت مراراً سيارات إسعاف وحافلات لنقل الراغبين في مغادرة شرق حلب. لماذا لم تخرجوا؟ ترد الأم «بهددونا بالقتل وبيقصفوا الممرات بالنار كيف بدنا نطلع بهالوضع؟ لا خلينا عايشين بالمجهول ليفرجها الله»، وتستطرد «بعدين إذا شافوا ولادي بيسحبوهم ع الجبهات كلهم وهاد اللي صار مع الناس اللي طلعت وهنن قلال».
تتمنى السيدة الستينية عودتهم إلى «حضن الوطن» بحسب تعبيرها، وتضيف «ناطرين نرجع ننضم للدولة ومؤسساتها.. الفوضى صعبة كتير». ومن جهته يتحسر الرجل على الزمن الحلبي الأوّل، فيتابع حديثه بعد تنهيدات عدة «نشتاق لحلب القديمة، فحدائق حلب المكتظة وساحاتها التي تنبض بالحياة لم تفارق مخيّلتي لحظة واحدة»، مضيفاً بعد صمت «لطالما نغني في سجننا هذا يا رايحين لحلب حبي معاكم راح.. نحن خارج حلب الآن».
الرجل يعاني كغيره ممن يعيشون هناك البطالة، يقول «لا أكل ولا مرعى وما في صنعة بالمرة». الحلبي لا يقتله الجوع بقدر ما تقتله البطالة «نحن الحلبية ما فينا نعيش بلا شغل». لا يستطيع الرجل أن يقدم شيئاً لعائلته، فهو عاجز كغيره. يعيشون برتابة موحشة وروتين قاتل، ضرب وقصف وبطش وأوامر تفرض عليهم، إما أن ينفذوها أو يقتلوا.
في حلب الغربية
 وفيما يعاني الرجل الأربعيني في حلب الشرقية البطالة، يستيقظ أبو يزن في حلب الغربية، في حيّ السريان الجديدة، يومياً عند الساعة السابعة صباحاً، متوجهاً إلى محل السمانة الخاص به، والقريب جداً من منزله، ليبدأ نهاره منتظراً قدوم الزبائن، يقول «الحركة عندي منيحة بيجيله زبون كلّ نص ساعة أو ساعة»، ويتابع «صارت العالم بتعرفني لأني أرخص من غيري».
تتقارب أسعار الموادّ الغذائية في أحياء حلب الغربية مع باقي المحافظات السورية مع اختلافات بسيطة لا تبلغ الـ100 ليرة سورية، يقول أبو يزن «أسعارنا أسعار دولة بس العتب عالضمير».
يحاول أبو يزن أن يجني الغلّة اليومية التي قدّرها بـ2000 ليرة كحد أدنى وفي أحسن الأحوال قد تصل إلى الـ4000، لكن تأمين القوت اليومي لا يقلق أبو يزن بقدر ما تقلقه القذائف اليومية التي تتعرض لها المدينة من مناطق سيطرة المسلحين.
لأبي يزن ثلاثة أطفال، جميعهم يذهبون إلى المدارس، يقول بنفَس استسلامي «شو بدي أعمل والله بضل قلقان من وقت ما يطلعو من البيت لوقت يرجعوا». مدرسة أطفال أبي يزن تعرضت لسقوط القذائف مراراً لكن القدر حمى أطفاله في كل تلك المرات، بحسب تعبيره.
المحامي علاء السيد، يؤكد خلال أن معظم الأطفال يرتادون المدارس رغم تعرض أغلبها للقذائف واستشهاد العديد منهم فالـ «القذائف أصبحت حالة يومية من شدتها صارت لا تقلق أحداً».
أبو يزن، الرجل البسيط، يجتهد دائماً لإيجاد حلول تمكّنه من جني المال أكثر، فالمواطن يحتاج يومياً إلى ما يقل عن 4000 ليرة. أحد الحلول التي أوجدها، بيع الملابس المستعملة عن طريق بسطة أحدثها أمام محله، ويتّبع أبو يزن القاعدة الحلبية التجارية الشهيرة «بيع كتير واربح قليل».
يغلق أبو يزن محله يومياً عند الساعة الـ11 مساء، أي قبل موعد انطفاء «أمبير» الكهرباء بساعة، يعود إلى منزله لقضاء ساعة من اليوم بصحبة العائلة والكهرباء، رامياً وراءه يوماً رتيباً وشاقاً يشوبه الانتظار والترقب.
تكاد الكهرباء الحكومية تنعدم منذ أشهر في حلب الغربية حتى باتت خارج حسابات الحلبيين. وعند موضوع الكهرباء تتقاطع الأحياء الشرقية مع الأحياء الغربية بالاعتماد على المولدات، لكن سكان حلب الغربية أكثر رفاهية من «جيرانهم»، إذ تولد الكهرباء يومياً ما لا يقل عن 10 ساعات وبسعر 1000 ليرة لـ «الأمبير» الواحد شهرياً.
وأما عن المياه، فيتحدث المحامي السيد، ويقول «تصل الماء الحكومية مرة كلّ حوالي 15 يوماً، لكن الحلبيين يعتمدون بشكل كبير على سواتير المياه المكلفة جداً».
وعن ترقب أهالي سكان حلب الغربية لمعركة الجيش السوري التي يخوضها الآن لاستعادة الأحياء الشرقية، يعبر السيد بالقول إن «مشاعر الناس تتنازع تجاه الأمر»، فمنهم من يشعر بالتعاطف مع النساء والأطفال الموجودين هناك، معتبراً أنهم: «أقرباؤنا وأهلنا ويجب إنقاذهم من الموت» إذا بدأت العمليات العسكرية بالشرقية، ومن الناس من ينظر لهم عموماً بأنهم يتحملون مسؤولية بقائهم هناك بل يعتبرونهم «حاضنة» للمسلحين.
قصمت الحرب ظهر حلب نصفين ونجحت في إحداث حلبيين اثنين، فما بين حلب الشرقية والغربية سوريون يتشاركون ربما زمرة الدم نفسها ويعيشون مكابدات يومية قد تختلف في شدتها لكنها تهدد حياتهم في كل لحظة. اليوم العيون كلّها على حلب، ربما يستطيع الجيش السوري وحلفاؤه إنهاء حالة الانقسام وإعادة كيان حلب إلى وحدته في القريب العاجل..

ريما نعيسة

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...