تابوكي وقوينتس.. الغياب الكبير
هي سنة مضت حملت معها أحداثاً "عالمية" أرخت لمرحلة مليئة بالتفاصيل الثقافية التي تعنينا، والتي أسست – ربما – لركن حقيقي في هذه الذاكرة التي تُسيّرنا والتي تأخذنا إلى أمكنة قصيّة، نحاول فيها أن نعيد التفكير بكلّ هذه الأمور التي تدافعت، والتي وجدت متاحاً لها في تفكيرنا وفي وجداننا.
لكن السؤال الذي لا بدّ أن يطرح نفسه: هل يمكن لكلّ الأحداث الثقافية التي حدثت أن تكون حاضرة بالفعل، داخل هذه الذاكرة وداخل هذا الوجدان، وأن تعيد فرض نفسها؟ لا أظنن ذلك، إذ – شئنا أم أبينا – ثمة ذاكرة انتقائية، تترك ما تشاء وترفض ما تشاء لتقصيه إلى نسيان ما. إنه نسيان شخصي بالتأكيد، إذ ما لا يبقى عند شخص ما، لا بدّ أن يبقى عند آخر. كلّ المسألة الثقافية تقيم في هذه الانتقائية، بمعنى أن سمة الفن الحقيقية، لا بدّ أن تكون إقصائية أحياناً، لأنها، ربما، قد لا تتوافق مع هذا السياق الثقافي (بالدرجة الأولى) الذي حدّدنا عبر كلّ السنين الماضية.
شاء المرء أم أبى، لا بدّ أن يعترف أنه جاء من تحديدات معينة، وهذه التحديدات هي التي تلعب دورها في انتقاء ما يرغب في انتقائه، من هنا، ربما تكون الأحداث التي أشير إليها، تقع في قلب هذه الانتقائية، بمعنى أنني أجدها محطات يجب التوقف عندها، نظراً لوقوعها في قلب هذا الخيار الذي تحدثت عنه قبل قليل.
من أولى الأحداث اللافتة هذه السنة، كان تكريس الكاتب الصيني مو يان بجائزة نوبل للآداب حدثاً لافتاً، لأنه حمل في طيّاته الكثير من الأشياء المصاحبة، التي قد لا تكون لها علاقة مباشرة بالجائزة، كجائزة، بل في تلك التفاصيل التي ظهرت بعد إعلان اسمه كفائز. من أول هذه التفاصيل، التي يجب العودة إليها، أن الصين كانت تعتبر أنها لم تفز بعد بهذه الجائزة، على اعتبار أن نوبل للآداب التي كافأت غاو زينيانغ العام 2000 لم تُعتبر جائزة صينية. فغاو كاتب منشق غادر الصين ويعيش في فرنسا، حتى أن الأكاديمية اعتبرته كاتباً فرنسياً من أصل صيني. إذ نظراً لمواقفه السياسية المناهضة للحكومة، سبب اختيار غاو الكثير من المشاحنات التي اعتبرتها الصين أنها مناهضة لسيادتها، وما زاد في ثقل هذا الأمر، أن اللجنة الملكية السويدية كافأت أيضاً قبل سنوات المعارض ليو كزابو، القابع في السجن، بجائزة نوبل للسلام. أي بمعنى آخر اجتمعت كل الأمور التي تؤرق الصين لتضعها أمام خيارات وامتحانات لا تستطيع تحملها، لا أمام مجتمعها ولا أمام "المجتمع الدولي"، لذلك شنّت – بعد الجائزتين – حملات إعلامية واسعة اتهمت فيها الجميع بتدبير حملات ضدها.
ردّ فعل الصين يومها كان مفهوماً، إذ نعرف جيداً كيف تتصرف هذه الأنظمة حين تجد من "يمسّ" بها. ولذلك أيضاً نفهم ردود الفعل الفرحة التي سادت بعد فوز مو يان، الذي يعتبر "كاتباً صينياً"، بمعنى أنه غير منشق، ويعيش في بلاده، وأكثر من ذلك فهو ابن النظام الرسمي، ويعمل في الدولة ومؤسساتها. إذ بدأ حياته كجندي في الجيش، ليرتفع في مناصبه، وبعد تقاعده، تفرغ للكتابة، وهو كان لحظة نوبل نائباً لرئيس اتحاد الكتّاب الصينيين. أيّ هذه السيرة تخبر كل شيء عن شخصية الرجل وتفكيره، وبعيداً عن أي تقييم نقدي لأدبه.
ربما هنا يكمن السؤال، فلو حاولنا فعلاً أن نبحث في أدب مو يان، لوجدناه ينتمي إلى تلك الفئة من الكتّاب التي تأتي من كلاسيكيات القرون الماضية، بمعنى هذا المناخ الذي يذكرنا بتلك الكتابة التي تحاول أن ترسم حياة بأسرها، على كثير من المتانة والجمال. أدب جميل فعلاً، وعلينا الاعتراف بذلك. لكن ربما فهمنا لدور الأديب قد يقع على اختلاف كبير مع مواقفه السياسية، على الأقل كيف يرضى أيّ كاتب أن تمارس ضده الرقابة الرسمية؟ والأنكى من ذلك، ما نجده في خطابه يوم تسلمه الجائزة، إذ حملت كلمته الكثير من الدفاع عن هذه الرقابة معتبراً أنها موجودة في مختلف بلدان العالم. حتى ولو كانت موجودة، أي دور عندها للأديب إن كان يرغب في الانصياع إلى هذا المنطق؟ أليست واجباته الأولى أن يقف ضد أي نظام سياسي، بحثاً عن حريته المنشودة، لأنها حرية الإنسان ككلّ.
نوبل ونوبل
ربما تحيلنا نوبل هذه السنة، إلى نوبل أخرى، نوبل العام 1996، يوم حازتها الشاعرة البولندية فيتسوافا شيمبوريسكا. وفي الإحالة هنا إلى "سيدة الأدب البولندي"، أكثر من سبب، أولا لأنها رحلت عن الوجود هذا العام، وثانياً لأنها تقف على نقيض من تجربة مو يان، على الأقل لأنها تقدم وجهاً مختلفاً عن هذا "الالتزام" المباشر.
فإذا كانت تجربة الكاتب الصيني، تقع في أكثر من 900 صفحة عند كل رواية، نجد أن كل قصيدة من قصائد شيمبوريسكا، لا تتجاوز الأسطر المعدودة، وبالطبع هذا الميل إلى الاختصار لا يشكل نزوة، بل قدرة حقيقية عند الشاعرة في اختزال العالم بكلمات قليلة.
هذه الكلمات التي ترغب في أن تتموضع في مكان بعيد، قدر الإمكان، عمّا يمكن تسميته اصطلاحاً بالالتزام. كذلك نجدها بعيدة كلّ البعد عن أيّ نزعة وطنية وعن هذه الرغبة التي تحمل بعض الشعراء على غناء وطنهم "المقتول" أو "المنتصر"، بالرغم من أنها ليست دائماً رغبة صائبة أو ضرورية. كذلك يبتعد شعر شيمبورسكا عن كلّ نضال نسوي. فتراتبية الاهتمامات التي يظهرها الشعر ويسمّيها والتي هي قريبة من أحداث العالم تتمحور حول البغض والحماقة والإرهاب والتعذيب. وهي أمور ليست "مشعرنة" في ضباب لغة تلميحية وإنما موسومة بكلّ وضوح. فعالم ما بعد الحرب العالمية، وعالم نهاية القرن العشرين، موجودان هنا. وهما عالم واحد. عالم يشعرنا بالشفقة. عالم نازف ومضحك، دامٍ، ساخر، مشبع بالكآبة، كما المعتم بالجهل الطوعي والفقير جداً بالعلم الحقيقي. هذا العالم الموجود هنا، يشاهد من بلد، حيث كان الرعب والألم يشكلان جزءاً كبيراً مما كان يتعرّض له أبناؤه، المعاقبون دوماً. ونقطة انطلاق الرؤية هذه ليست بالضرورة رؤية غير مبالية، ولكنها لا تتلف في شيء السمة الكونية لأدب يجعل من الوعي القيمة المرجعية.
قصائدها، في الغالب، عن الإنسان في مجتمعه، في طرفه الصعب، في غربته ويأسه، والإنسان يواجه جرحه وجرح غيره و"دمار النفس"، كما في قصيدتها "اكتشاف" واللجوء والالتصاق بالآخر نتيجة ذلك كما في "لقاء غير متوقع"، الرعب كما في "الإرهابي يراقبني". تلك هي أفكار شعراء جيلها وبخاصة نديها اللذين ذكرناهما سابقاً.
أما بالنسبة إليها هي، فتشكل هذه المضامين أفكارها الثانوية وتعدها المعوقات عن رؤية الحب والفن في الحياة والنفاذ إليهما. وترى أن الطبيعة حكيمة وواسعة وسخية وان المسؤولية "الايجابية" تجاهها واجبة على من يرى. ولعل هذا المنطق وراء قصيدتها إلى "توماس مان" التي تشير إلى افتتانه بالأصول وتقديره للمستقبل. وهو الخط أيضاً الذي تسير فيه قصائدها "مليون ضحكة وأمل مشرق" و"حديث في دائرة المفقودات والمعثور عليها" و"تعجب". أما قصائدها عن الحيوانات وصغر الإنسان في المواقف التي تناولتها في مجموعتها "أسئلة لنفسي"، فمن أجل إبراز ما تتمناه وترجوه مما وراء الجوانب المعتادة.
رحيل
هذه الغيابات كانت حاضرة بكثرة هذا العام المنصرم، وبالنسبة إليّ، شكلت أحداثاً ثقافية مهمة، تطغى على أحداث أخرى، أجدها عادية. عديدون هم الذين رحلوا، أكانوا كتّاباً أم فنانين أم موسيقيين.. لكن إن كان عليّ الاختيار، لتحدثت عن أربع يشكلون بالنسبة إليّ محطات هامة. والمحطة هنا، ليست فقط في رحيلهم المادي، لأن هذا الرحيل يكشف لنا عن التجربة الكبيرة التي تركوها وراءهم. هذه التجربة هي التي تعنيني، بمعنى أن الحدث الثقافي ليس في لحظة إقامته بل يكمن في قدرة صاحبه على أن يترك وراءه عملاً يستمر لفترات طويلة من بعده. هنا يتحول المنتج إلى حدث إنساني وحقيقي.
من الغيابات التي لا بدّ الإشارة إليها رحيل الكاتب الإيطالي أنطونيو تابوكي، الذي غاب وهو "في قمة إبداعه"، وفق التعبير الشائع. لعلني أميل إلى اختياره كثيراً لأسباب عدة: عمله على بيسوا أولاً، رواياته المدهشة، ولربما لفكرة أساسية نجدها في أغلب كتبه وهي فكرة "الوعي بالزمن" التي شكلت وحدها الموضوعة الرئيسية لأحد كتبه الأخيرة وهو "الزمن يشيخ بسرعة" إذ عالج فيه ثيمة كبيرة وتتمثل في أن ثمة جوانب كاملة من ذواتنا محكومة بهذا الفارق الزمني بشكل مستمر. وما شيء، سوى أمر واحد قديم جداً مثل الأسطورة والحلم والأدب يمكن له أن يصلح ويصالح فيما بينها، أن يعطيها إيقاعاً وشكلاً. علينا أيضاً أن نسرع في أمورنا، لأن "الزمن يشيخ بسرعة"، كما يقول السابقون على أرسطو.
إذاً من البداية مع بيسوا عادت الرحلة في الزمن لتصل عند أرسطو، وبين الاثنين كانت الرحلة التي قطعها تابوكي عبر الكتابة، رحلة طويلة، وهي إن دلت على شيء، فعلى هذه الكتابة المدهشة، التي حملتنا عبر عوالم مختلفة، وعبر صيغ للفن السردي، الذي لم يتوقف الكاتب عن مساءلته، مثلما لم يتوقف عن مساءلة زمنه وحضارته الأوروبية من كتاب إلى كتاب، ليقدم لنا صوتاً جميلاً، لا شك في أنه سيبقى حاضراً في المشهد الأدبي، على الرغم من رحيله.
وجه آخر غاب، هذا العام، من الوجوه الكبيرة والأساسية في الأدب المعاصر في العالم. إنه المكسيكي كارلوس فوينتس الذي يشكل هذه اللحظة الكبيرة المنيرة في أدب لا أميركا اللاتينية فقط، بل في كل الأدب الإنساني في العالم. منذ بداياته في عالم الكتابة، عرف فوينتس كيف يبني عملاً أدبياً، هو أكثر الأعمال موافقة للتساؤل حول الكذب (بمعنى التخييل الروائي)، إلا أنه في الوقت عينه، أحد أكثر الأعمال التي تستطيع أن تكون نشيداً للأمل (من يمكن له أن ينسى رواية "موت أرتيميو كروز" أو "كرسي الرئاسة"، على سبيل المثال). وبما أنه كان أحد المعجبين بفيكو (جيوفاني باتيستا، فيلسوف وسياسي إيطالي ومؤرخ من القرن التاسع عشر، ناقد للعقلانية الحديثة ومدافع عن العصور الكلاسيكية) الذي اعتقد أن الزمن ليس أفقياً، اقترح فوينتس علينا، في أدبه، الذهاب للقاء ماضي المستقبل كما مستقبل الماضي، أي بمعنى آخر اقترح أن "نرتدي ثياب أبي الهول للعيش في الحاضر" (وفق ما ذهب إليه في كتاب "ما أعتقده").
صحيح أن فوينتس اعتبر نفسه شخصاً "كوسموبوليتياً"، وميله للرحلات كان شبيهاً بميل بورخيس للمكتبات، إلا أنه بقي مكسيكياً في العمق. تشكل هذه النقطة أكثر المواضيع المتواترة في أدب فوينتس، أي كان يبحث عن هذه "المكسيك" التي وصفها "هامبولدت" يوماً بأنها "المنطقة الأكثر شفافية" (وقد جعل فوينتس نفسه، من هذا التعبير عنواناً لروايته الأولى) والتي تأتي مخالفة لما ذهب في اعتباره، كاتب مكسيكي آخر هو أوكتافيو باث (نوبل للآداب 1989) أنها "كلاسيكية، نبوية، تدافع عن المتخيل أيّ عن الشعر، وفي النتيجة عن الكائن البشري" أي "تجتهد في تأخير الرجوع إلى كابوس البدايات؟".
بهذا المعنى يبدو فوينتس ذلك "المكسيكي" الكبير، بمعنى أن اللغة والفضاء (الجغرافي) ليسا سوى عالم واحد من النداءات والأجوبة، أي هذا العالم الذي لا يشكل فيه الإنسان ذلك الكائن الاستثنائي الذي مجدته النهضة، بل تلك اللحظة المميزة للحوار بين الفضاءات المختلفة. هذه النقطة هي التي قادته إلى "الباروكية"، لذلك نجد أن عمله ينفتح على عالم من دون إله، لكنه عالم لا نهائي يبدو الله فيه في كلّ مكان. إنه رب متعدد، خلاسي، من جميع الأزمنة ومن جميع الثقافات، كي نجد أن الإنسان يقف في موقعه بالضبط: إنه يفكر في الكون، وفي تفكيره هذا يفهم أن التفكير يتخطاه أو بالأحرى أن "اللامفكر فيه" هو جزء لا يتجزأ من الإنسان، لأنه السمة التي لا يمكن دحضها عن وجود الله.
وبعيداً عن الأدب بوصفه كتابة، شهد العام 2012 غيابات أخرى، لأناس أغنوا مخيلتنا، منهم المخرج السينمائي اليوناني ثيو أنجيلوبولس، الذي شكل الوجه الإشكالي الكبير للسينما اليونانية الجديدة الذي رحل بعد أن صدمته دراجة نارية مسرعة، كذلك رحل منذ ايام الفنان الهندي الكبير رافي شنكار بسبب مشكلات في القلب، والذي كان يُعدّ "أب موسيقى العالم" والذي تأثر بفنه وبطريقته في العزف العديد من موسيقيي العصر الحديث حتى على اختلاف أعمالهم وميولهم الموسيقية. مع رحيله تفقد الموسيقى المعاصرة أحد أهم قممها الفعلية الذي عرف كيف يجد طريقة "للقاء الغرب بالشرق"، فيما لو استعرنا عنوان أحد ألبوماته.
قد لا يكون من رحل فقط هم من الكتّاب والفنانين، إذ ثمة مكتبات شكلت في أزمنة معينة رموزاً ثقافية، نجدها أقفلت أبوابها، وهذا الإقفال لا بدّ أن يقود فعلاً إلى التساؤل حول الكثير من الأشياء. من هذه المكتبات على سبيل المثال مكتبة "فيلاج فويس بوك شوب" من جراء العديد من الأزمات التي ألمّت بها، وبرغم كونها أشهر مكتبة اعتنت بالأدب الأميركي المعاصر، حيث شهدت قاعاتها حضور أبرز الأدباء الأميركيين وأكثرهم شهرة. المكتبة الضحية الأخرى التي رحلت أيضاً في العاصمة الفرنسية مكتبة "دل دوقا"، التاريخية والشهيرة بدورها إذ لم تنجُ بدورها من الأزمة المالية التي يعرفها العالم، كما من أزمة القراء الذين انسحبوا أكثر إلى المواقع الالكترونية.
في أي حال، ليس نية استعادة هذه الغيابات سوى التأكيد على أمر واحد أجدني منساقاً إليه: في رحيل البعض حدث أهم من مليون عمل راهن: ربما لأن هؤلاء قد وسموا الذاكرة الإنسانية إلى الأبد، بينما بعض ما حدث قد لا يجد الفرصة لأن يحيا بعد فترة عرضه.
اسكندر حبش
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد