حسن الحفّار..«وصْلات حلب» من باريس تحيي تراث الإنشاد الصوفي
بعد رحيل صبري مدلَّل عميد المنشدين الحلبيين، والغياب المفاجئ لحمزة شكور شيخ الإنشاد الشامي، بُعَيد حفلته في «دار الأوبرا» الدمشقية السنة الماضية، بات الشيخ حسن الحفّار أبرز الشيوخ الأحياء على تراث الإنشاد الصوفي بلُغتَيْه الدينية والدنيَوية. صحيح أن الحفّار ليس الوريث الوحيد لهذه المدرسة، لكنَّه الاسم الأبرز فيها اليوم، وخصوصاً في فرعها الحلبيّ.
بعد الإصدار الوحيد الذي خصَّصه للمعلِّم الشيخ صبري مدلَّل، التفت «معهد العالم العربي» في باريس إلى حسن الحفَّار وخصَّه بألبوم استثنائي، لا مثيل له في الـ«كاتالوغ» الضخم الذي غطى العالم العربي من المحيط إلى الخليج. الإصدار الذي حمل عنوان «وصْلات حلب» وضمّ ثلاث أسطوانات، يليق بصاحبه ويعطي فكرة شبه كاملة عن فنّ الغناء الحلبي عموماً و«طقوس» الحفار وميزاته خصوصاً.
ولِد المنشد الحلبي الأصيل عام 1943. بعد التمرُّس البديهي بالإنشاد والتجويد القرآني، أصبح حسن الحفّار مؤذناً في الجامع الكبير في مدينته حلب. صوته الذي ثقب صمت المدينة قبَيل الصلاة، لفت المعلِّمين الكبار الذين تبنوا طاقاته، بينهم المنشدون صبري مدلل وبكري كردي وعبد الرؤوف حلاق.
درس الحفَّار أصول الإنشاد والتجويد ومقامات الموسيقى العربية الكلاسيكية، إضافة إلى إلمامه بالتراث الغنائي الحلبي من قدود وموشحات وقصائد (وقد أغناه بإضافاته التطريبية المنمقة، غير المبالغ فيها). بعدها أسّس فرقته الخاصة من منشدين وعازفي آلات موسيقيَّة قرعيَّة (مزاهِر)، وراح يُحيي الأمسيات الطربية في حلب. ومن أبرز حفلاته خارج مدينته، زياراته الثلاث إلى فرنسا برفقة معلِّمه صبري مدلل 1975 و1995 و1999. هنا، نذكر حفلته البيروتية ضمن مهرجان «موسيقى ــ1»بدعوة من جمعية «عِرَب» في نيسان/ أبريل 2006. يومها أطرب الحضور قبل أن يستدعي دراويش التراث المولوي لتَفتل وتؤمِّن الجرعة الأخيرة المطلوبة لبلوغ النشوة الصوفية.
أما أسطوانة «وصْلات حلب» التي صدرت هذا الشهر، فقد سُجِّلت في باريس عام 1999، أي قبل عشر سنوات! في هذا العمل القيِّم، يؤدي الحفّار مع فرقته 11 وصلة غنائية، معظمها من الموشحات القديمة المجهولة المصدر (لجهة كاتب الشعر أو اللحن)، وبعضها من ألحان عمر البطش (الحصة الأكبر) وداوود حسني وسيِّد درويش ونديم درويش وأبو خليل القباني... وتتناول الأشعار التي جمعها الحفّار في وصْلاته، الخالق والحبيب والخمر أساساً، فهي إذاً ليست دينية بالمعنى الخاص جداً للكلمة. من الناحية الموسيقية التقنية، تقسم هذه الوصْلات بحسب مجموعة الأعمال التي تتبع مقاماً نغمياً مشتركاً. وبالتالي، إحدى عشرة وصلة، تعني 11 مقاماً، بينها المقامات المتداولة عموماً في الموسيقى العربية الشرقية (نهاوند، راست، حجاز، كُرد، عجم، سيكاه، بياتي، يكاه) أو تلك النادرة أو القليلة الاستخدام (زنجران، بستنكار، نكريز). وفيما يجمع مقامٌ بين مختارات الوصلة الواحدة، تجد الوصلة التنوّع في الإيقاع الذي ضُبِطت على أساسه المؤلَّفات. والتنوُّع الإيقاعي يطال الوزن في معظم الأحيان وكذلك السرعة (قلما نجد انتقالاً من دون تغيير في خاصّتَيْ الإيقاع أو في إحداهما).
أما الأداء فلا تشوبه شائبة. هو عبارة عن عمل متقن إلى أقصى حدود، يعكس معرفة مطلقة بأسرار المهنة. كذلك يدل على تناغم قلّ نظيره بين الفرقة وشيخها.
لا تستطيع الأذن أن تلتقط أدنى هفوة، من دون أن تتململ من الكمال «غير البشري» لأنه بكل بساطة كمال مشوَّهٌ بطبيعة إنسانية هي غير كاملة في الأساس. في أداء الجوقة شغف بالتطريب والسلطَنَة، لكن احترام المعلِّم يفرض عليها توفير الحالة الطربية له، فيتولى التعبير عنها أو يتخلى. وفي التخلي تعبيرٌ مضاعف ينعكس تأثيرات مفتوحة على كل الاحتمالات بحسب تأويلات السامع. وهذه الحالات التي يعجز المستمع العربي عن شرحها للغرب، يصبح الكلام عنها أعجز تعبيراً عندما نشير إلى الخاصة الأساسية لهذه الموسيقى: أحادية الصوت (مونوفونيك). فالصوت البشري أحادي الصوت.
ولعلّ غياب أيّة آلة نغمية يلغي احتمال الـ«بوليفوني» (الهارموني)، علماً بأنّ وجود الآلة في الموسيقى الشرقيّة ليس لبناء هارموني (الاستثناءات قليلة جداً وليست مكرَّسة علمياً بدقة بعد) بل لتعزيز التلوين الصوتي. وكذلك، فإنَّ الجوقة لا تؤدِّي إلَّا صوتاً أحادياً. ورغم كل هذه الخصائص التي تصبُّ في خانة أحادية الصوت النغمي، تبدو الحالة الطربية سهلة المنال متى تولاها العارفون بأصول الغناء العربي الأصيل وأصحاب الأصوات التي تغني عن أوركسترا، مثل صوت الحفَّار.
بشير صفير
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد