خرافة العصر الحديث
لو كان الكاتب الفرنسي رولان بارت على قيد الحياة لما تردّد في اضافة فصل الى كتابه الشهير «أساطير» عن الأميرة ديانا التي ما برحت تمثل بعد عشرة أعوام على رحيلها، احدى أبرز «أساطير» القرن الحديث. اللايدي دي ليست اللايدي ماكبث، بطلة شكسبير، لكنّ ما أسيل من حبر حولها يكاد يفوق ما كُتب عن تلك البطلة التي غزت مسارح العالم. ومنذ رحيلها سرعان ما أصبحت الأميرة ديانا، «أميرة الشعب» كما لقبت في حياتها، رمزاً وأسطورة و «نجمة»، بل إن المهووسين بها في العالم لم يتوانوا عن تصوّرها «قديسة» و «ملاكاً». لكنها حتماً «قديسة» العصر الحديث، قديسة بلا قداسة، قديسة النجومية والاعلام والميديا...
كان رولان بارت سيجعلها أحد وجوه اللوحة التي سمّاها في كتابه «عادات الزمن» والتي راح عبرها يفضح «الأوهام» الطارئة و «الحيل» أو «الحماقة البشرية» بحسب تعبيره و «ثقافة الجموع». ظاهرة ديانا كانت ستدخل في صميم عمل بارت على «سوسيولوجيا الحياة اليومية» لا سيّما بعدما ارتبط اسمها بجسر «الألما» الشهير في باريس الذي يكاد يصبح معلماً أثرياً بعد الحادث الذي حصل عليه وأودى بحياة ديانا وصديقها المصري دودي الفايد. إنها احدى أساطير العالم الحديث، عالمنا الذي بات في أمسّ الحاجة الى مثل ظاهرة ديانا، الأميرة الطالعة ليس من الحكايات الخرافية بل من الواقع، من حكايات الواقع الذي لا يخلو من السحر والطرافة.
في الذكرى العاشرة لرحيل الأميرة ديانا صدر ما يقارب خمسة عشر كتاباً عنها في بريطانيا وأوروبا، ودارت هذه الكتب بين السيرة والتحليل والتوثيق الصحافي والفوتوغرافي... إلا أنّ الأبرز بينها رواية للكاتب الايرلندي إيوين ماكنيمي عنوانها هو تاريخ موت الأميرة ومكان موتها: «23:12 باريس – 31 آب 1997». والرواية سرعان ما ترجمت الى الفرنسية وصدرت عن دار غاليمار في «السلسلة السوداء» ما أضفى عليها سمة الرواية البوليسية. تُرى هل يمكن حبك «عقدة» بوليسية انطلاقاً من وقائع حقيقية؟ هل يمكن تأليف رواية يعرف القراء خاتمتها مسبقاً؟ هذان السؤالان واجها حتماً الكاتب الايرلندي الذي آثر الابتعاد عن سيرة ديانا مركزاً على الحادثة التي أودت بها وما أحاطها من أسرار أو ما يشبه الأسرار. وكان على الكاتب أن ينطلق من السجال الذي ما زال قائماً حول ظروف موت الأميرة وصديقها. وقد وجد في هذه «الظروف» مادة بوليسية تتمثل في ما سميّ «خلفية» سياسية للقضية وفي «الصيد» الاعلامي (البابارتزي) والمطاردة التي جرى الكلام عنها... هكذا لم يبق الحادث مجرد حادث «قدري» في الرواية، بل أضحى «اعتداء» ملغزاً: مَن؟ لماذا؟ وكيف؟ وواضح أن ديانا كانت تمثل حالاً من الازعاج أو المضايقة داخل العائلة المالكة. إنها أم وارث العرش وقد تتزوج من رجل مسلم. ترى مَن المستفيد مِن قتل ديانا؟
أطرف ما في هذه الرواية هو جوّها البوليسي الواقعي الذي يظل «ملبداً». فالكاتب لا يسعى الى البحث عن أجوبة على الأسئلة الشائكة التي تنتهب الرواية. وقد تنبّه تماماً الى إلمام القراء – أياً كانوا – بقضية ديانا وتفاصيلها من خلال ما وفّرت لهم الصحافة والإعلام المرئي. إلا أن أطرف ما يمكن أن يكتب عن ديانا رواية تتخيلها على قيد الحياة وتفترض ما كان سيحصل لها لو لم تمت تلك الميتة المأسوية. هل كانت لتتزوج من الشاب المصري الثري؟ هل كانت لتظل على علاقة بابنها الأمير الذي سيرث العرش؟
لا أدري إن كانت الأميرة ديانا تستحق كلّ هذا الصخب الذي ما زال يحتل الإعلام على اختلافه في العالم أجمع. امرأة جميلة استطاعت أن تهز في حياتها وبعد موتها قصر وندسور. أميرة استحقت أن تفوز بلقب «أميرة الشعب» بعدما غيّرت بعض ملامح صورتها كأميرة. التزمت قضايا الفقراء ودافعت عن المظلومين والمرضى والمنفيين. كلّ هذه الأمور جميلة ومهمة ولكن غير كافية لصنع اسطورة. وما يجب عدم تجاهله أنها كانت امرأة مسرفة في الحياة والثراء، تشكو من ملاحقة المصوّرين لها لكنها تحب في آن واحد أن ترى صورها في الصحف وعلى الشاشات الصغيرة. وقد انتهى بها حبها للصور الى أن تصبح المرأة التي التقط لها أكبر عدد من الصور. لم تؤلّف دياناً كتاباً ولو واحداً. لم تكن مبدعة في مجال ولو واحد. لكنها استطاعت أن تكون نجمة ونجمة كبيرة وربّما أكبر نجمة في العقد الأخير. انهم المعجبون والمعجبات التائقون الى «النجوم» الذين صنعوا نجوميتها، إنها الجماهير التي لا تستطيع أن تحيا بلا قصص أو فضائح بالأحرى. بل هو الاعلام الذي يحتاج دوماً الى وجوه يصنع منها أساطير ولو عابرة، أو هي ثقافة «الميديا» التي تبني عالماً من الأوهام سرعان ما يتهاوى.
شاء القدر أن يصادف موت الأميرة ديانا رحيل امرأة تدعى «الأم» تريزا. المرأتان تختلف واحدتهما عن الأخرى لكن الذكرى العاشرة لرحيلهما جمعتهما هذه السنة. «الأم» تريزا لم تتذكرها سوى كلكوتا، مدينة الفقراء وعاصمة الهند التي أمضت فيها هذه «الأم» ردحاً من عمرها في خدمة المرضى والجائعين والمعوزين. أما ديانا فتذكرها العالم أجمع، العالم الذي لم ينسها أصلاً. «الأم» تريزا لم تشفع لها جائزة نوبل للسلام التي حازتها عام 1979 كي تشع صورتها إعلامياً وينتشر «المثال» الذي طالما جسدته بعدما انكرت ذاتها لتحب الآخرين، الآخرين الذين هم المنسيون على أطراف العالم.
عبده وازن
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد