د. ثائر دوري: جاهلية قبلية أشرف من حداثية متأمركة

12-08-2007

د. ثائر دوري: جاهلية قبلية أشرف من حداثية متأمركة

الجمل ـ  د. ثائر دوري :
 
 رحم الله الشاعر العربي دريد بن الصمة حين قال :
أمرتهم أمري بمنعرج     اللوى        فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
فلما عصوني كنت منهم و قد أرى       غوايتهم و أنني    غير   مهتد
ما أنا إلا من غزية إن   غوت         غويت و إن ترشد غزية   أرشد

 كان هذا الشاعر يحس بذاته مندمجة مع الجماعة  فظل يسير على خطاهم حتى و هو متيقن من خطأهم ، لأنه يحس أن لا وجود له خارج الجماعة فهو معها على الحق و الباطل ، على الخطأ قبل الصواب ، إن استمعت لنصيحته أم صمت أذنيها عنها . و نفس المعنى يؤديه مثل بدوي يقول:
- (( إن جن ربعك فعقلك لن يفيدك )) 
في أول ميعة الصبا اعتبرنا ما قاله شاعرنا العربي دليلاً على الروح الجاهلية التي تعشعش في ثنايا العقل العربي ، حيث ترتفع القيم القبلية فوق قيم الحق الفردية ، و حيث لا وجود لذات الفرد إلا منحلة في ذات الجماعة ، فطالبنا بتجاوز هذه الروح القبلية كي تتفتح الذات الفردية ، و اعتبرنا هذا التفتح ضروريا للإبداع و التقدم  و التحرر  !
 لكني ( و أنا هنا أتكلم باسمي الشخصي فقط  ) أعدت النظر بهذا الأمر كلياً لا سيما بعد ما شهدته من أنماط من المثقفين يقفون ضد أمتهم على طول الخط سواء كانت ظالمة أم مظلوم ، و كأنهم يعكسون معاني دريد بن الصمة فيعلنون ليل نهار جهاراً و على رؤوس الأشهاد أنهم و إن كانوا من غزية فهم ضدها على طول الخط : إن غوت ثابوا إلى رشدهم ، و إن رشدت تمادوا في الغي . و لعل من الأمثلة المتطرفة لهذه النخب ما شاهدناه منهم  و سمعناه عنهم قبل غزو أمريكا للعراق و أثناء الغزو و بعده ، فقد أعلن أحدهم أنه يستمتع بصوت سقوط القنابل على بغداد كما يستمتع بسمفونية لشوبان أو موتزات او بيتهوفن أو تشايكوفسكي ! و يكتب آخر متغنيا بالصباح الذي يولد من الفلوجة المقصوفة بالأسلحة الكيماوية ! إلى آخر ما هنالك من مثقفين كارهين لأبناء جلدتهم ، واقفين مع الإمبرطورية الأمريكية في كل مشاريعها لذبح أبناء أمتهم .
صرنا نتأمل في أسباب هذه الظاهرة التي تجعل زمرة من أبناء جلدتنا ولدت و كبرت أكلت و شربت و تعلمت في هذه الأرض ، و مع ذلك تكره وطنها و أرضها و تاريخها . و في وقت من الأوقات حسبنا أن هذه الظاهرة خاصة بنا العرب ، فكأنهم يفعلون ذلك عمداً لينتقموا من قيمنا الجاهلية التي عبر عنها دريد بن الصمة لذلك انتهوا إلى نقيض الشاعر . و قال بعضنا إن هذا الأمر لا يخص العرب وحدهم بل إن ظاهرة المثقف المخبر على أبناء بلده الكاره لأبناء جلدته الملتحق بركاب الإمبراطورية أمر معروف في كل أنحاء العالم الثالث ، فهذا المثقف يرطن بلغة سادته المستعمرين و يتقمص حركاتهم و ينفعل لانفعالهم فيبكي عندما يبكون و يضحك عندما يضحكون ، كما يطرب لأغانيهم و يحتفل بأعيادهم و ينتشي لانتصاراتهم و لو كانت على أبناء جلدته .
 رجعنا إلى رواية موسم الهجرة إلى الشمال و إلى تنظيرات فرانز فانون فوجدنا وصفاً دقيقاً لهذا المثقف الذي تعلم في مدارس الغربيين فرطن بلغتهم و صار برغياً في آلتهم الاستعمارية مهمته أن يضمن إدامة النهب الاستعماري على بلده لأن وظيفته ضمان نقل الخراج إلى المستعمر . و إذا فكر أبناء وطنه بالتمرد للحصول على حريتهم حاول في البداية أن يثبط همتهم ليثنيهم عن الثورة فيحدثهم عن التقدم التقني الذي يتمتع به العدو وعن دباباته و طائراته و عن اقتصاده القوي و جيوشه الجرارة . و يبدى حرصاً زائداً على أرواح أبناء وطنه التي ستزهق بدون ثمن في تمرد لا معنى له حسب رأيه . فإن لم يصغ الشعب له و اندلعت الثورة تحول إلى وحش كاسر ضد أبناء وطنه يمارس القمع عليهم إن كان ضمن الآلة العسكرية الاستعمارية ، أو يبرر ما يفعله المحتل إن كان إعلامياً أو سياسياً .
 حسبنا أن كل ما سبق يخص أبناء المناطق المحتلة المستعمرة ، أبناء ما يسمى بالعالم الثالث المبتلاة بهذه النخب و هؤلاء المثقفين . لكن الحياة تفاجئنا بالجديد دائماً ، فاليوم نكتشف أن عقلية التبعية للمركز الإمبراطوري موجودة حتى في الدول الصناعية المتقدمة كاليابان فها هو وزير دفاعها يبرر قصف أبناء بلده بالقنبلة النووية و هذا أمر لم يعد أحد من الأمريكان الذين قاموا بهذا الفعل المجرم يجرؤ على تبريره ، سيما بعد أن تبين بالدليل القاطع انتفاء أي اعتبار عسكري يبرر القصف ، فالحرب قد حسمت لصالحهم و اليابان كانت على وشك الاستسلام . و كل ما في الأمر أن القصف و إبادة مئات آلاف البشر في المدينتين المنكوبتين تم لاستعراض العضلات النووية أمام الإتحاد السوفيتي الذي سيصبح بعد قليل خصماً بعد أن كادت الحرب تضع أوزارها ، و أيضاً لاختبار فعالية هذا السلاح الجديد !
لقد تبين وجود آليات معقدة تنتج هذا المثقف المعولم ، الذي تحرر من روابط التاريخ و الجغرافيا و صار مربوطاً بحبل سري بالمركز الإمبرطوري  سواء كان منتمياً إلى أمة متخلفة أم متقدمة ، غنية أم فقيرة الأمر الذي يجعلنا نتحدث بكل ثقة عن وجود طبقة عالمية متأمركة ( على اعتبار أن العولمة مرادفة للأمركة هذه الأيام )  عابرة للحدود و الأوطان ، تتحدث بنفس اللغة ، و تفكر بنفس الطريقة ، و تأكل و تشرب بشكل متشابه .
أليس وجود هؤلاء المعولمين الأمريكان مبرراً كافياً لنعود لدريد بن الصمة فنغوي مع غزية إن غوت أو نرشد معها إن رشدت . و لنعلن أننا مع أمتنا على الخير و الشر ، على الحق و الباطل ، إن استمعت لتنظيراتنا أم خالفتها !

الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...