د. غسان رفاعي: افتقدناك يا رفيق العمر والدرب..

23-11-2008

د. غسان رفاعي: افتقدناك يا رفيق العمر والدرب..

ـ 1 ـ أذكر، هذه الليلة المستوحشة، وأنا مسمر وراء مكتبي، والكآبة الثلجية تجمدني، وتسلمني إلى ذهول، ما قاله حكيم يوناني قديم: «الموت هو الروتين الذي لا يطرأ عليه تعديل». المفارقة الكبرى في الموت هو أننا نعرف أنه ينتظرنا وراء منعطف ما، ولكننا ما إن نعلم أن أحد معارفنا قد لاقاه، على هذا النحو أو ذاك، حتى نصاب بالجزع، وكأن حدثاً خارقاً قد فاجأنا، من حيث لا ندري، ولا نتوقع، وتعظم المفارقة حين يكون ضحية الموت انسانا عشنا معه، وعاش معنا، لا كآخر غريب، وإنما كجزء من طقوسنا اليومية، حينئذ ينقلب الموت إلى ظاهرة شاذة غير مقبولة ولا مفسرة. ولعل هذا ما عناه الشاعر الألماني الكبير «رلكه» حينما قال: «موت صديق هو خلل، يصيب النظام الكوني بأسره..!»

‏ ـ 2 ـ ‏

اتصل بي صديق أمس، وأبلغني بصوت متهدج ان «جبران كورية» قد ارتحل، فشعرت كأن ضلعاً في صدري قد كسر، أغلقت سماعة الهاتف، تشاغلت بعض الوقت، ثم انفجرت باكيا: لم أكن أراه إلا لفترة قصيرة، وقد اجتمعت به، في نهاية شهر نيسان الماضي، في «الوادي الأخضر»، مع مجموعة من الاصدقاء، بينهم وزير الثقافة الدكتور رياض نعسان آغا، والدكتور تركي صقر، رئيس تحرير البعث سابقا. ‏

وكان واضحا انه يعاني من مرض عضال، ويتجلد، ويتمسك بالحياة بصلابة، ان اختفاءه سيحدث خللا في هندسة حياتي، لا لأنني اعتدت الشعور بأنه «هناك»، في مكتب صحيفة «تشرين» يكتب، ويمزق، ويرمي في سلة المهملات، أو في المقهى يتحدث بانفعال وحماسة عن قضايا الساعة، وإنما لأنني أدركت، فجأة أن جيلا بكامله ولد شقيا، وترعرع في مناخات الاضطراب، والألم، والأمل، يختفي الواحد تلو الآخر، أكثر شقاء ووحدة، ووجدتني أقول، بيني وبين نفسي: «نحن نزول، والله يرحمنا جميعاً!». ‏

‏ ـ 3 ـ ‏

كانت تجربة «تشرين» فريدة شاقوليا وأفقياً، لقد زودنا الرئيس الراحل حافظ الأسد ـ تغمده الله برحمته ـ بتوجيهاته، حينما اجتمع بنا والمرحوم جلال فاروق الشريف قبل إصدار الصحيفة بفترة وجيزة، قال لنا: «أريد صحيفة جريئة، تعكس طموحات وآمال وتطلعات شعبنا الكبير، وأنا واثق أنكم أهل لهذه المهمة النبيلة» وأذكر أنني قلت له: «قد نحتاج الى هامش من الحرية، في الطرح، والتحليل والنقد!» ابتسم وقال لنا: «ليكن! أنا أضمن لكم هذه الحرية!» وبدأنا العمل بحماسة وثقة، وتم التعاقد مع كتاب مشهود لهم بالكفاءة والوطنية مثل زكريا تامر، محمد الماغوط، حسيب كيالي، محي الدين صبحي، عادل أبو شنب، مروان مهايني، وقد تعاطف الجمهور مع الصحيفة، وأسلوبها في تقديم الخبر، والتعليق عليه، وإبراز خلفياته، وكانت طبعاتها تنفد في الأسواق قبل الساعة العاشرة صباحاً. ‏

‏ ـ 4 ـ ‏

وكان جبران «الدينامو» المحرك، يعمل بلا كلال ولا تعب، من الصباح حتى ساعة متأخرة من الليل، على الرغم من أن ظروف العمل، في مرحلته الأولى، كانت صعبة للغاية، اذ كان البناء الذي وقع اختيارنا عليه ليكون مقر الادارة والتحرير قيد البناء والتكملة، بلا بلاط، ولا كسوة، ولا تدفئة، كنا نعمل بحماسة ونشاط، محررين وعمال طباعة، ومخرجين، وكان يحلو لنا، بعد دفع كل المواد الى المطبعة في ساعة متأخرة من الليل، أن نذهب الى مطعم شعبي في الشيخ محي الدين اسمه «بوز الجدي» لنتناول «التسقية الشامية» ولا نعود الى بيوتنا إلا عند الفجر، وكان جبران يقود مسيرتنا، بمحبة وتعاطف، وبقي جبران يلازمنا بعد أن انتقل الى المكتب الصحفي في الرئاسة، حيث اثبت جدارته واستقامته ومهنيته، وإنني لأذكر أن باتريك سيل، الصحفي البريطاني الذي عرف بتعاطفه مع سورية، قيادة وشعبا قال لي: «جبران ورشة صحفية كاملة، انه بلدوزر من النوع الثقيل..». ‏

‏ ـ 5 ـ ‏

حينما توفي الفيلسوف الألماني هيدجر نشرت صحيفة «اللوموند» الفرنسية خبر موته على النحو التالي: «توفي الإنسان ـ الهم لا بسبب خوفه من الموت ـ كما يدعي ـ وإنما بسبب خوفه من السياسة»، وجاء في المقال التأبيني عنه: «كان الفيلسوف الناسك يعتقد أن أحسن تعريف للإنسان هو أنه كائن ـ أمام ـ الموت، وهو لهذا السبب كائن مهموم، لكن الفيلسوف اكتشف قبل وفاته أنه كان ينبغي أن يعرف الإنسان بأنه كائن ـ أمام ـ السياسة، وهو لهذا مهموم، وتحدثت الصحيفة عن بعض الهموم السياسية التي حملها الفيلسوف إلى قبره، ومنها شعوره بأن السياسة التي كانت إبداعاً إنسانياً يستهدف تنظيم العلاقات الإنسانية قد أصبحت عبئاً على الإنسان تلتهمه، وتقضي على إنسانيته، ومنها اكتشافه في آخر لحظة أن الثقافة بعد أن كانت تحتضن السياسة وتوجهها قد أصبحت تابعة للسياسة لا تملك وسائل مقاومتها ولا مناهضتها، إنني لم أتعاطف مع فلسفة هيدجر في أي يوم من الأيام، فهي فلسفة مدانة وهجينة، ولكن أتساءل، وفي شيء من الوجل: «ألا تؤكد الأحداث التي تتواتر بسرعة مذهلة أن الفرد المثقف قد أصبح عاجزاً عن التأثير الفعال، وأن عليه أن يقنع، منذ الآن فصاعداً بروز المتفرج الصامت؟ ولكن جبران رفض أن يبقى متفرجاً صامتاً. ‏

‏ ـ 6 ـ ‏

جاء في الكتب المقدسة أن الله حين طرد آدم من الجنة صرخ في وجهه قائلاً: «بعرق جبينك تأكل خبزك!» ومنذ ذلك الوقت أصبح العمل ضريبة فادحة تثقل كاهل الإنسان و«نقمة» بغيضة ينوء بأعبائها نسل آدم، ولكننا ـ على ما يبدو ـ من هذا النسل أكثرهم تهرباً من دفع هذه الضريبة، وأكثرهم تذمراً من هذه النقمة ـ المحسود عندنا هو ليس من يتنعم من عرق جبينه، وإنما من تهبط عليه النعمة من حيث لا يدري، والمثل الأعلى الذي نتمنى أن نكونه هو «المتلاف» الذي يبذر دون حساب، ويرفض أن يدفع ثمن اتلافه وتبذيره. ‏

يزعم أن الفنانين هم أولاً وقبل كل شيء، أناس يعرفون كيف يفكرون بأيديهم، الخيال يتبدد بسرعة وحركات الفكر والوجدان سريعة الزوال، ولكن اليد هي الوسيلة التي سيعتمد عليها الفنان لاستيعاب تلك الأطياف الشاردة، وتزويدها بالصورة التي تضمن لها البقاء، فلماذا لا نفكر بأيدينا؟ لوفعلنا ـ وهذا ليس مستحيلاً ولا صعباً ـ لانتزعنا «الفعل» وأيدي الذين لا يفعلون، وإنما يتآمرون ويهدمون ويخربون، لو فعلنا لسحبنا المسؤولية من احتكار القلة المتحكمة المستبدة وأودعناها في أيدي الرجال المناسبين في الأماكن المناسبة، لو فعلنا لانقلب الكلام إلى عملة صعبة لا تقبل المقايضة ولا المبادلة، و لانقلب الفعل إلى إنجاز حقيقي منتج، لسحب من التداول ذلك الكلام الذي لا رصيد له، ذلك الفعل الذي لا يتجاوز حركة الأسنان في الفم، ولقد أراد جبران، أو لعله حاول أن يفكر بيديه. ‏

‏ ـ 7 ـ ‏

وكانت للمعلق السياسي جبران قناعات، عبّر عنها بأساليب متنوعة: ‏

ـ يبقى الحديث عن الأممية الأصولية ناقصاً ومشبوهاً، إذا لم نتناول الأصولية الليبرالية الغربية الحديثة التي تعتبر أكثر بربرية من سائر الأصوليات، وإذا كانت الأصوليات التي تطفو على السطح اليوم تتسلح بالخناجر والبنادق، فإن الأصولية الليبرالية الغربية تتسلح بالقنابل الذرية، وتفرض على العالم هيمنة متغطرسة، وإذا كانت الدعوة إلى الانعزال والطهارة في الأصوليات «المتخلفة» هي موقف دفاعي للمحافظة على الحد الأدنى من الهوية، فإن الدعوة إلى الانفتاح في الأصولية الليبرالية هي موقف هجومي لاحتواء الآخرين وإخضاعهم وإذلالهم. ‏

ـ إن سقوط الإيديولوجيات لا يلغي الحاجة إلى العدالة والمساواة، ولا يعطي السيادة المطلقة للقذارة على النظافة تحت شعار اقتصاد السوق وحرية المنافسة، إن استبدال سفاحي المافيا ببارونات الاشتراكية السمان لا يعني أن الأمور قد عادت إلى وضعها الطبيعي، وإن كل محاولة لإشاعة العدالة بين الناس هي ضرب من الحماقة، فما زالت هناك حاجة ماسة للثورة الفرنسية، والثورة البلشفية باستمرار، ولا يجوز أن تستثمر رغبة الإنسان في الحرية الاجتماعية لإخضاعه لنظام التلوث والنفاق والتلفيق، وما زال من الممكن أن تقام الديمقراطية على أرضية من النزاهة والاستقامة. ‏

ـ تظل الديمقراطية، ومن أي منظور نظر إليها، حلماً جميلاً سامياً، ومن الإجحاف إظهارها، ولو بفرض التمسك بالنزاهة المزعومة، على أنها ضرب من التلوث والنفاق، وتبقى الحرية مطلباً إنسانياً نبيلاً، يعلو فوق كل الاعتبارات الذرائعية والانتهازية، لا يجوز تعهيرها، ولو لأهداف أكاديمية مزعومة، وعلى أي حال، إن الحرية، في المطلق، كما يفهمها الذين يناضلون في سبيلها، هي غير الحرية الليبرالية التي تروج لها دكاكين الإعلام الثقافية الغربية. ‏

ـ ينبغي أن يتحرر الكاتب من عقدة «التعامل مع السلطة» إنه أسير منطق سلفي غير مبرر، فما دام حجم السلطة قد تضخم بحيث أصبحت تحتكر كل وسائل النشر فإن كل تعامل مع سلطة هو تجريح بالنزاهة، ونفي للصدق، وهذا لا ينطبق على واقع الحال دوماً، إن الخضوع للسلطة هو، في معظم الأحيان ـ ولنقل هذا بكل صراحة ـ تخل من جانب الكاتب، وليس تعسفاً من قبل السلطة، فمن حق السلطة المتفردة أن تطالب بالطاعة والانصياع والامتثال، ولكن ليس من حق الكاتب أن يصمت ويستكين ويذعن، ومن المؤكد أنه لم يقم صراع جاد بين السلطة الغاشمة والكتاب المؤمنين والمصممين إلا وكانت الغلبة إلى جانب الكتاب. ‏

‏ ـ 8 ـ ‏

افتقدناك يا أبا جابر. ‏

افتقدناك يا رفيق العمر، والدرب. ‏

غسان رفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...