"داخل ليوين ديفيس" للأخوين كَوِن.. بطل من الستينيات
وصفت الصحيفة البريطانية اليومية العريقة "ذي غارديان" جديد الأخوين الأميركيين جويل وأيثان كَوِن "داخل ليوين ديفيس" بأنه "مفعم بحزن بليغ، وعذوبة بهيّة، ورقّة معا". بيمنا اعتبرته الصحيفة الأميركية "فارايتي" المتخصّصة "رحلة طافحة بعاطفة أصيلة وجريئة، تخترق عالم المقاصف الليلية في حي "غرينتش فيلج" البوهيمي في نيويورك القاتمة بشتائها، كما هو تفرّس في نضال مشحون لرجل يسعى إلى التوفيق بين حياته وإبداعه". أما نظيرتها "هوليوود ربورتر" فعدّته "دراسة لشخصية منجزة برونق، ممزوجة بأبعاد سوريالية تهكمية وقاتمة". هذا الاحتفاء النقديّ كلّه لم يُقنع القائمين على جوائز "أوسكار" بضمّه إلى ترشيحاتهم الأساسية هذا العام، ليصاب بخسارة مدوية، مع أنه نال ترشيحين في فئتي "أفضل تصوير" (برونو دلبونل) و"أفضل ميكساج صوت" (سكيب ليفساي وغريغ أورلوف وبيتر أف. كيرلاند).
كل فيلم جديد للأخوين كَوِن حدث سينمائي، يدفع إلى الاطمئمان على أن السينما، كصنعة وإبداع، لا تزال معطاءة، وأنها لن تخبو أو تتنازل عن قيمها الحقيقية. هذان خالقان لنصوص لا تشبه بعضها، مليئة بفانتازياتهما الغنية التي شعّت في "بارتون فينك" (1991)، وبتهكّماتهما السليطة على أحوال الجريمة ومقترفيها ومتعقبيها وقضاتها ("دم بسيط" 1984، و"فارغو" 1996)، والعائلة اليهودية المعاصرة وارتباكاتها ("رجل رزين"، 2009)، والغفلة الإنسانية وحماقاتها ("ليباويسكي الكبير" 1998، و"لا وطن للرجال العجائز" 2007)، والطيش البشري وعواقبه ("نقطة عبور ميلّر" 1990، و"أحرق بعد القراءة" 2008). لكنهما يبقيان عيار المفارقة ونكاتها ولمحاتها الذكية على أرفع مستوى فني في حكاية ديفيس.
فيلم مليء بالأسى على مرحلة إبداعية عاشتها المدينة ـ المتروبوليس في الستينيات الماضية، عندما عمّتها ظاهرة موسيقى "فولك" الشعبية، واكتسحت نواديها الليلية وقاعاتها. نصّ مشبع بالتحنُّن على أحوال موسيقي شاب يكافح لاختراق منظومة الموسيقى وأباطرتها النهمين. لكن محاولاته تبقيه خاسراً دائماً، يلاحقه قول أحدهم: "إنّي لا أرى مالاً (أي ربحاً)"، بعد الاستماع إلى إحدى مقطوعاته، قاطعاً الأمل على أي اعتراف بخصاله. كيانه القلق عصيّ على إدراك حقيقة أن صنعته رهنٌ بمجموعة موسيقية انطلقت موهبته معها. ينهار عالم ديفيس (أوسكار أيزك) ببطء: تخبره حبيبته جين بيركلي (كاري مليغان) أنها حامل، من دون أن تعترف بوالد الطفل، قبل اكتشافه أن صاحب الحانة الشهيرة، حيث يقدّمان وصْلاتهما، هو الذي أغواها وحبّلها. يتساير هذا الانكسار العاطفي مع إعراض مكاتب العملاء عن دعم موسيقاه، وتأمين عقود حفلاته، ثم يظهر في نهاية الفيلم معزولاً، وهو يستمع إلى أولى أغنيات اليافع بوب ديلان، الذي يصبح لاحقاً إيقونة الموسيقى المستحدثة.
ليوين ديفيس علامة لجيل لن يتكرّر. ذلك أن ثورة الوسائط الحالية أفسدت ولادات كيانات شبيهة به، رمزها معاناة متشعّبة الأحوال، تبدأ بالغضب وتنتهي بالتسكّع ومطاردة الفرص. خبرة هذا الشاب تتولّد من صراع بين ثقة نفس واستهانة آخرين بقدراته وإمكاناته. كل كبوة تقرّبه من قرار الاعتزال والتراجع. بيد أن عناده يمرّر خيباته الواحدة تلو الأخرى: معدم، ينام في كل مكان، يستعطف الجميع، يتحايل على وضع شخصي مستوحد. بيد أن أمراً واحداً يبقى جلياً وساطعاً: الموسيقى في داخله لن تبور، ولن يعدمها العوز، على الرغم من أن اسطوانته الأولى لم تبع نسخة واحدة.
الحاسم في بصيرة الأخوين كَوِن أنهما لا يكشفان بسهولة عمّا إذا كانت موسيقى بطلهما، التي يحمل ألبومه اليتيم عنوان الفيلم، على قدر من السوء، أم أن الموهبة فيه لا تزال غائبة، على عكس الوافد الجديد الذي نراه متسيّداً على المسرح، بخيبة بطل لم يعلن هزيمته بعد. استعادتهما تفاصيل حقبة الستينيات النيويوركية لافتة ومُدهشة في عملهما الغني بتفاصيله وألوانه وأزيائه وسمائه الرمادية وملمح جنونه ورموزه ولحظات اكتئاباته وخساراته.
زياد الخزاعي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد