رائحة القرفة لـ سمر يزبك.. حين تكون الكلمات سلعاً مهرّبة
منذ البداية تطالع سمر يزبك القارئ، عبر روايتها الأخيرة(رائحة القرفة) الصادرة عن دار الآداب 2008، بعلاقةٍ مثليّة تربط سيدة دمشقية بخادمتها الصغيرة..
(حنان)، تلك السيدة التي تجسّد تضادّاً ملحوظاً بين اسمها و شخصيتها، إذ تربّت محرومة من حنان أمها التي اعتقدت أنّها بهذا ستصنع من ابنتها امرأة مميزة.. و حرمانها هذا ما هو إلاّ بداية الأسباب التي أدّت بها لتكون امرأة تتملّكها المشاعر الشاذّة و الميول غير السوية..
(عليا) كذلك تجسّد عبر اسمها و شخصيتها كلّ أنواع التضادّ (اجتماعي،اقتصادي،نفسي...)، فالبيئة التي انبثقت منها، أقرب لأن تكون أحد قيعان جهنم، بما حوت من قذارة العيش الخلقي و الجسدي و النفسي...
تمارس الكاتبة لعبة تهريب الكلمات، أي أنها لا تتاجر ببضاعة مشروعة، بل هي بضاعة إشكالية بامتياز.. و صحيح أنّ أمارات التقزز لا تفتأ تبارح وجه القارئ على طول الرواية، إنما بإمكانه أنْ ينطلق من تلقيه لها، من زاويةٍ إيجابية بالرغم من كمّ الشحنات السلبية الهائل الذي يجتاحه في أثناء القراءة.. ففكرة العلاقة المثلية وحدها كفيلة ببثّ شعور التقزّز، إضافة إلى الأحداث التي تدور في كل من عالمي (حنان) و (عليا).. إلاّ أنّ نظرةً من منظار إيجابي يمارسها القارئ باتجاه أعماقه، ليقارن الجمال القائم فيها، ببشاعة العالم الذي طرحته الرواية، هذه النظرة هي ما يُدعى بالتلقي الإيجابي..
إنّ الجمال و القبح موجودان في أصغر التفاصيل الكونيّة مثلما هما موجودان في أكبر الأحداث.. و صحيح أنّ القاعدة العامة تقول: إنّ كل جمال هو خير و كلّ قبح هو شرّ، إلاّ أنّ الإنسان الحكيم هو الذي ينجح في استخراج الجمال من القبح و الخير من الشرّ..
و قد تكون الأسباب التي أودت بـ(حنان) إلى تلك العلاقة كثيرة، و لكن و حسب التسلسل الذي تعرضه الرواية،فإنّ حمّام العروس التي اصطحبت أم حنان طفلتَها (حنان) إليه، و المشهد الذي اقترفته تلك العروس على مرأى (حنان) التي لم تفهم ما حصل، هو ثاني الأسباب.. أما الرّجل في هذه الرواية، فهو أخرس، أصمّ، فاقد لأيّ شعور بأيّ شيء، يمثّله زوج (حنان) الذي لم يبارح فراشه، و لم يأتِ بأية حركة، و لم يلفظ أية كلمة، لسبب لا توضحه سطور الرواية، فالكاتبة لا تشير لمرضٍ ما اعتراه فأدى إلى ركوده في الفراش، حتّى في مشهد العلاقة الجنسية بينه و بين (عليا)، تكتفي الكاتبة ببثّ الحركة من طرف واحد هو (عليا)، بينما يواصل هو سكونه في أكثر اللحظات استثارة للرجل.. و كأنّ الكاتبة تريد للنساء أن يكنّ المهيمنات، كي تسوّغ لهنّ ما يقترفنه من علاقات مثلية تسويغاً فنياً، أي لا يمتّ مطلقاً لفكر الكاتبة تجاه المرأة، بل هو فقط لخدمة هدف الرواية..
و في وقفةٍ تأمليّة قصيرة، لا بدّ للقارئ من أنْ يتفهّم لماذا جعلت الكاتبة زوج (حنان) راكداً هكذا، فزواجه منها كان آخر شيء تتوقعه، إذ لطالما كان بالنسبة لها بمثابة الأخ الكبير، لذا من الصعب أن تتقبله شريكاً لحياتها، ولذلك ظلّ راكداً، لأنه لم يتحرك داخلها يوماً، و بالتالي لم يحرّك ساكناً فيها تجاهه بوصفه رجلاً..
إنّ رواية (رائحة القرفة) من أولها إلى آخرها قائمة على رائحة.. فرائحة القرفة هي المحرّك الأساس للأحداث، تنتشر بين سطورها جميعاً ليس فقط في حمّام (حنان).. و مهما يكن، تبقى للقارئ حرية تلقيه و حرية استهلاكه للسلع المهرَّبة من الكلمات، فإما أن يقبل بها، أو أنه يظلّ حريصاً على عدم التورّط بمُنْتَجٍ غير مستمدّ من الخيوط السائدة، حيث أهمّ سمات هذه الخيوط _في ما يخصّ الحبر_ هي الدبلوماسية، و المواربة أحياناً، و كثيرون هم الذين لا يفضلون الفكر الصدامي، و التعبير الذي يخدش..
غير أنّ تهريب السلع في الكتابة لا يعني بالضرورة السوء، على العكس، فمصادرها ليست إلا ذوات الكتّاب و أعماقهم، و هنا مسوّغ مهمّ للقبول بها، فهي وجوه من الحقيقية.. و يبقى القارئ المميّز هو الذي لا يعدم وسيلة لإيجاد معادلةٍ بين ما في روحه و ما في العالم..
نادين باخص
المصدر: مجلة الحال
إضافة تعليق جديد