رقص وشطرنج على رقعة العالم

26-12-2014

رقص وشطرنج على رقعة العالم

 لقد انتهت سنوات الطاعون يا صديق. وقد كانت سنوات شاقّة بالنسبة لي. أنا دائم الانشغال، صحيح، لكن تلك السنوات كانت شيئاً آخر. لقد أخذْتُ معي حينها ثلث أوروبا العجوز. نعم، أوروبا نفسها التي تمنّي نفسك اليوم بها، وتجد فيها الخلاص والحياة الحَقّة والمهرب من عالمك الذي تسمّيه ثالثاً، لأنك تشتكي فيه من كثرة الموت.
أنا الموت، يا صديق، وأنا لستُ كثيراً، كما ترى.
أنا واحدٌ، فردٌ فقط، لكن ليس لي طائفة من الناس توحّدني كما توحّد وجه الله.
أعرف أنّك شاب وجميل، وأنّ والدتك تصرّ على أنّك أجمل وأذكى ممّا أنت، لكن ذلك لن يغيّر في الأمر شيئاً. اسمع، سأكون الكاهن لبرهة، لتأتي إليّ وتعترف إذا أحببت الاعتراف. لن يفيدك الشيخ والقسّيس في شيء. أنا صامت كحفرة قبر، وتلك أفضل صفاتي. أتكلّم الآن لأنّني مضطر، لكنّني في الصمت أستمع أفضل من الآخرين بأشواط، فاعترف في حضرتي. إن كنت خاوياً، سأساعدك لتجد كلاماً يليق بفراغ روحك الشقيّة، لكن اعترف.
طيّب. ما دمت لا تتكلّم، سأذكّرك. هل تتذكّر حربكم الأهليّة؟ لقد أنهكتني وأثارت اهتمامي فعلاً. هل تذكر الأشياء الرهيبة التي شاهدتها على التلفاز من أماكن كثيرة في العالم؟ أنتم البشر، تخترعون أسماء عجيبة للأشياء البسيطة. كل تلك الأشياء لها اسمٌ واحد، هو اسمي: «الموت». أنا أكثركم صدقاً منذ البداية ولم أتبدّل.
عندما رسمني الرّسّام، قال أحدهم «إنك تخيف الناس. لن ينظروا». لكنّ الرسام قال: «إنّ رسماً لجمجمة أشدّ إغواء من رسم لامرأة عارية. الموت يثير إعجابهم، سينظرون». أنا أيضاً أعتقد أنّهم سينظرون، وسيفكّرون. ليفكّروا، ما الضير في ذلك؟

***

لنلعب الشطرنج في الوقت المتبقي. لا تتفاجأ، فأنا مثلك، أحبّ الألعاب. وسرّي الآخر العميق هو أنّني أحبّ الرقص، لكنه نوع خاص جدّاً من الرقص، سأحكي لك عنه فيما نلعب. القطع السوداء لي بالطبع.
أتعلم، الطريف في موضوع عملي أنه لا يتوقّف حتى لو أنهيتم كل حروبكم البلهاء، حتى إن وجدتم إكسيراً شافياً لكل داء، وحتى لو تفاديتم كل الحوادث القاتلة. إنّني أنالكم رغم ذلك، فأنا لاعبٌ صبورٌ وممتاز. مثلاً، قد أخسر لعبة الشطرنج، وقد أعدك أنّني لن أقربك إنْ أنتَ هزمتني، لكنّك مع ذلك ستأتي إليّ صاغراً، لترجوني أن أقبض روحك. أنت أضعف من أن تعيش إلى الأبد، حتى لو افترضنا أنك رغبتَ بذلك. في قرارة نفسك، تعرف أن هذا كله لغو غير نافع، ولا تملك إلّا أن تستعمل كلمة «خلود» في كل المواضع الخاطئة.
تشجّع، يا صديق، إنّها فقط ساعاتك الأخيرة، لا أكثر. بإمكانك أن تكون ذكياً وتلعب معي الشطرنج، كما نفعل. بإمكانك أن تتظاهر بأنك مستمتع باللعبة، كما لا ينبغي لك، أو أن تتظاهر بأنّك سعيد برفقتي ربّما. سيؤرّقني ذلك، بالتأكيد، وقد يزعجني حتى. لكنّني سأستمر باللعب، فهناك أمور لا يمكن استعجالها. إنّني صبور كما أسلفت، ولا يضجرني الانتظار.

***

الآن، سأكون صريحـاً. فكّر للحــظة: كيف يمكنك أن تفوق الموت ذكاءً؟
هل فهمت عبثيّة المحاولة الآن؟ مواعيدك ملغاة، وعقود عملك حبر على ورق، فالجميع يقبل عُذر «غائب بداعي الموت».
أما الباقون، فسأكون بينهم دائماً، حتى في اللّحظة السعيدة المطمئنّة. حين يقعدون في البرية ويغنّون لحناً للربيع، يأكلون التوت البري ويشربون من إناء كبير حليباً طازجاً، سأكون بينهم. حين ينام صغارهم على العشب الرطب، حين يتذكرون النساء اللاتي أحببن، حين تكون الشمس دافئة، في النسيم الشفيف والروائح الطيبة، في الضحكات العذبة، سأكون منتظراً.
نسيت أن أخبرك كيف أحب الرقص. أحب أن تشتبك أيادٍ كثيرة، فتصنع سلسلة جميلة أقف أنا عند أحد أطرافها وأقودها نحو مصدر اللحن.
لكن، الآن، قل كلمة استقبالٍ لصديقك الصبور. أحبّ أن أسمع منك «صباح الخير، أيها السيد النبيل».

 

السفير (بلا اسم)

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...