زكريا تامر والطيران من وزارة إلى وزارة
-1- كان حمدي بصل رجلاً تعرفه كل المؤتمرات والندوات والمهرجانات المتنوعة الغايات وكل الجرائد والمجلات والمحطات التلفزيونية والاذاعية بوصفه المختص بمعالجة القضايا الكبرى المصيرية, والخبير بكل شيء, والعالم بكل العلل, والمالك لكل الأدوية الشافية, والمتمتع بقدرات تؤهله لأن يفعل بوقار ومهابة كل مالا يفعل:
مشى بنجاح على كل الحبال المرئية وغير المرئية..
دخل كل مخادع المسؤولين ومخافرهم ومصارفهم, ودخل كل السفارات من أبوابها الأمامية وأبوابها الخلفية, فكل السفارات سواسية لا فرق لديه بين سفارة وسفارة.
أتقن الوثب من الوادي إلى القمة, وعرف جيداً ذهب وفضة من يقال عليهم إنهم الرجعية المتزمتة, وصعد إلى أعلى بفضل من يقال عليهم إنهم اليسار المتطرف الذي لا يهادن ولا يساوم ولا يباع..
لم يترك مذهباً إلا واعتنقه بحماسة ونبذه بحماسة وعاداه بحماسة بحجة التطور الفكري والوعي اليقظ والتغيير نحو الأفضل..
لم يترك نزعة إقليمية أو طائفية إلا واستخدمها مجدافاً يوصل قاربه إلى الشواطىء بأسرع وقت..
لم يترك حاكماً إلا وامتدحه ثم هجاه ثم امتدحه, فهو أول من أكل وآخر من شبع.. أول من يأكل حين تكون المائدة كثيرة الطعام, وأول من يركل المائدة حيث يتضاءل طعامها.
لم يترك امرأة أو حكومة إلا وتغزل بهما مغرياً الآخرين بالتنبه إلى ما خفي من محاسنهما, فإذا أجره أجران..
لم يترك تنظيماً سياسياً أو ثقافياً أو اجتماعياً إلا وعامله كأنه خروف يذبح ويؤكل لحمه ويسلق عظمه ويستفاد من صوفه وجلده.
-2-
يحوص حمدي بصل ليلاً في بيته كضبع جائع حول خادمته الجميلة بينما كانت زوجته نائمة وأولاده ساهرين خارج البيت, وفجأة يرن جرس التلفون, ويبلغ صوت صارم حمدي بصل أنه قد صار وزيراً للزراعة.
فتسأله خادمته عما سيأمر بزراعته ما دام قد صار وزيراً للزراعة, فيفكر حمدي بصل لحظات ثم يجيب بوقار أنه سيزرع الثقافة في كل مكان, فتسأله الخادمة: (وتلك الثقافة.. أهي خضراوات تؤكل بعد طهوها أم فاكهة تؤكل نيئة بعد غسلها?).
الوزير الجديد للزراعة يخطب في موظفي وزارته متكلماً عن خطته المبتكرة لتطوير الزراعة.
-3-
القمح لا داعي إلى زراعته, استيراده أفضل وأربح.
القطن لا داعي إلى زراعته, استيراده أفضل وأربح.
الخضراوات لا داعي إلى زراعتها, استيرادها أفضل وأربح.
الفاكهة لا داعي إلى زراعتها, استيرادها أفضل وأربح.
الشعير لا داعي إلى زراعته, فحميرنا مترفة لا تأكل سوى القمح.
الأشجار لا داعي إلىها لأنها متكبرة لا تنحني, تصديرها خشباً أفضل وأربح.
ويسهب وزير الزراعة في تبيان فوائد زراعة الورد الذي سيجعل من حدائق الفيلات متعة للناظرين, وصالحة للتصوير الفوتوغرافي والسينمائي والتلفزيوني.
-4-
وزير الزراعة صار وزيراً للدفاع, وابتكر خططاً حربية دوخت الاعداء, وتعتمد على النياق سلاحاً يقهر الدبابات, أما الأسلحة الكثيرة المستوردة, فهي رابضة في المستودعات, غاياتها سلمية وإنسانية تحول دون أن يتسلل الصدأ إلى بعض المصانع الأجنبية.
-5-
وزير الدفاع صار وزيراً للتموين, فأكل الناس أصابعهم متلذذين, وأوشكوا أن يصبحوا غير مرئيين.
أما الشرهون منهم, فقد نصحهم وزير التموين بأن يرتادوا الحقول, ويأكلوا العشب الطازج حفاظاً على صحتهم أسوة بالخراف والماعز والبقر.
-6-
وزير التموين صار وزيراً للتعليم, فكان عهده متميزاً بالحرص على عدم تبديد الأموال العامة في مالا يجدي, فأغلقت المدارس والجامعات, ومنح كل مواطن شهادة دكتوراه, فاستراح المعلم والتلميذ.
-7-
وزير التعليم صار وزيراً للصحة, فأصدر قراراً حظر فيه على المواطنين أن يمرضوا, ولم يحاول أي مواطن عصيان القرار, وبارت مهنة الأطباء, ووفرت خزائن الدولة ثمن الأدوية المستوردة.
-8-
وزير الصحة صار وزيراً للنفط, فأمر ببيع النفط للدول الأجنبية بأسعار مخفضة رمزية ليثبت أنه كريم وابن شعب كريم.
-9-
وزير النفط صار وزيراً للاسكان, فسارع إلى استيراد الخيام بحجة أن من يتنكر لماضيه لا حاضر له ولا غد.
-10-
وزير الاسكان صار وزيراً للثقافة, وأعلن أن خير وسيلة لتثقيف الناس جذرياً هي أن يأكلوا الكتب والمجلات الثقافية, وأصدرت وزارته العديد من الكتب التي تتضمن مئات الوصفات لطهو الكتب والمجلات وتحويلهما من ورق بليد إلى أطباق شهية.
-11-
وزير الثقافة صار وزيراً للخارجية, واستدعى سفراء الدول الكبرى, وأمرهم بأن ترسل دولهم جيوشها إلى بلاده فوراً, وهددهم بعقوبات اقتصادية شرسة إذا لم يلتزموا بتنفيذ أمره غير القابل للنقاش, فخرج السفراء من مكتبه يرتعدون رعباً, وبادرت دولهم إلى تنفيذ أمره من دون تردد.
-12-
وزير الخارجية صار وزيراً للاعلام, وأعلن أن الاعلام الملتزم المنشود هو المؤمن بالآتي: (الحياة ليست سوى مباراة في كرة القدم بين فريقين غير متكافئين), فإذا افتتاحيات الجرائد عن مباريات كرة القدم, وتحقيقات الجرائد عن حياة اللاعبين وخفاياها, والبرامج التلفزيونية عن أقوال اللاعبين ومناماتهم, والأغاني الرائجة عن غراميات اللاعبين, والندوات الفكرية التلفزيونية تخصص لتقويم نتائج المباريات وتحليلها, وأغلفة المجلات تحتلها صور اللاعبين وزوجاتهم وعشيقاتهم فقط.
-13-
وزير الاعلام صار وزيراً للصناعة, وبادر إلى رصد الميزانيات السخية للتوسع في صنع المناديل الورقية, فمن المخجل أن ينتحب الناس من دون أن يملكوا مناديل يمسحون بها دموعهم خاصة أن الدموع التي ستذرف في المستقبل أكثر من الدموع التي ذرفت في الماضي.
-14-
أشاع خصوم لحمدي بصل أنه وطني ونزيه ومستقيم وكفء, فطرد من مناصبه بكثير من الازدراء, وها هو الآن يقف وحده في بيته محني الظهر والرأس, ويتكلم مخاطباً أناساً لا يراهم:
عندما كنت مسؤولاً كان كل شيء مختلفاً..
كان الاغنياء يتسابقون إلي عارضين علي أموالهم راجين أن أباركها بالأخذ منها قدر ما أشاء.
كان الأزواج ينقلون إلي بلا خجل إعجاب زوجاتهم بي ورسائلهن الطامعة في لقاء طويل يليه لقاء أطول.
كان التجار يستجدون أن أشاركهم أعمالهم, منهم رأس المال, ومني المشورة والارشاد والتوجيه.
كانت المطاعم ترحب بي, وتقدم لي أشهى الأطعمة, وتدفع لي ثمن ما آكله.
كانت الجرائد والمجلات تنشر صوري متكلماً صامتاً ضاحكاً عابساً قاعداً واقفاً مقعياً كأن صوري كفيلة بزيادة مبيعاتها وإزالة بؤس الناس.
كانت النساء ينظرن إلي كأني الرجل الوحيد على وجه الأرض, ويغمى عليهن إذا ابتسمت بتحفظ.
كانت ثرثرتي الجوفاء تقاطع دائماً بعواصف من كلمات الاطراء وصيحات الاعجاب, أما اليوم, فأتكلم كسقراط, فتحملق إلي العيون مستنكرة كأني مجنون خطر هارب من مستشفاه.
كان الاصدقاء يصافحونني بخشوع, ولكنهم اليوم يكتفون بمس يدي على مضض, ويمنعهم الخجل من المسارعة إلى تنظيف أيديهم وتعقيمها.
كان أولادي يهجمون بأفواههم على يدي غير مبالين بهجائي لعادة تقبيل الأيدي, وأنا الآن أوشك أن أقبل أيديهم من دون أن أوفق في نيل القليل من رضاهم.
كانت زوجتي تعتبرني رجلاً من نوع سوبر مان, وهاهي اليوم تعاملني كأني بساط مهترىء آن أوان التخلص منه.
كانت أشجار الفاكهة تناديني بأصوات ضارعة لحظة أمر تحت اغصانها راجية أن أمنح ثمارها شرف الدخول إلى فمي.
كان الناس يرتجفون رعباً مني, وقد انتهى رعبهم ليبدأ رعبي.
-15-
مات الوزير السابق حمدي بصل موتاً مباغتاً, وسار الشعب بأكمله في جنازته حتى يتأكد أنه مات فعلاً.
زكريا تامر
المصدر: الثورة
إضافة تعليق جديد