صوت نيجيريا

08-04-2013

صوت نيجيريا

العنوان الأصلي للكتاب هو «الأشياء تتداعى»، لكن لو استعرنا العنوان كما جاء في الترجمة الفرنسية لوجدنا أنه «عالم يتداعى» (أو ينهار). فعلا هو عالم يتداعى، ويسقط ويغيب، وكأنه يصبح من الذاكرة. بالتأكيد ليس معنى ذلك أن تتوقف حركة التاريخ، إذ لا بدّ للحياة من أن تستمر (ببساطة)، ولكن أيضا علينا ألا ننسى هذه الذاكرة، وبخاصة في ما يعنينا، أي حين تكون ذاكرة أدبية، ربما لأن الأدب هو الأكثر قدرة على البقاء.
ملاحظة يقودني إليها غياب الروائي النيجيري تشينوا أتشيبي (صاحب كتاب «الأشياء تتداعى») الذي رحل عن دنيانا في نهاية الشهر الماضي، في الولايات المتحدة بعد أن غادر بلاده منذ فترة طويلة بسبب مواقفه السياسية المناهضة للحكومات المتعاقبة فيها.
رحيل يأتي ليذكرنا بأشياء كثيرة، أولها انبثاق أدب افريقي كبير وجاد، في المرحلة التي تلت مرحلة الاستعمارات المختلفة التي عرفتها افريقيا (كما في بعض دول العالم الأخرى التي عرفت أوضاعا مشابهة)، أدب كُتب بلغة المستعمر، كأنه استعار تلك اللغة، «لينتقم» منها إذا جاز التعبير، بمعنى أنه حاول أن يسائلها وأن يسألها، ومن هذا السؤال ولدت الكثير من الأسماء في افريقيا والهند وباكستان وغيرها من الدول. أدب أرخ أيضا لمرحلة إنسانية كادت تمحى بسبب الاضطهاد المستمر الذي عانته شعوب تلك الدول، من هنا أتى الأدب كأنه يحافظ على هذه الذاكرة التي رفضت أن تغيب.
هذه الذاكرة أرقت أتشيبي كثيرا، من هنا جاء أدبه بمثابة بيان ولا أقصد أنه أدب عادي سياسي لتنشيط الحياة والبحث عن مصادر قوتها، أي في البحث عن محليتها وعادياتها، ليصنع منها أدبا سيبقى أكثر من مجرد شهادة، لكن للأسف حاولت الماكينة الاستعمارية جاهدة إبقاءه مجرد حكايات شعبية، وإن لم تفلح في ذلك، لأن هؤلاء الكتّاب خرجوا فعلا من معاناة على أكثر من صعيد.
عديدة هي المدائح التي ظهرت في أدب أتشيبي غداة موته، والتي حاولت أن تضعه في سياقه الطبيعي في الحياة والأدب. من هنا السؤال الذي يطرح نفسه: لِمَ حظي أتشيبي بكل هذا التقدير؟ ربما لسبب بسيط: لقد فتح أمام الكتّاب الأفارقة الدرب الطويل، درب الكتابة كما درب أن يكونوا حاضرين في الحياة العامة لبلادهم. إذ من دون شك، بدأ كمدرسة حقيقية أعادت لمعنى المثقف الافريقي دوره الطبيعي بعد أن تمّ إقصاؤه لعقود عديدة. إذ كان يرفض (أتشيبي) أن يبقى الكاتب مجرد كاتب، بل غالبا ما طالب بأن يكون حاضرا في المناخ السياسي والاجتماعي عبر وعيه.
ربما هذا ما ينقصنا اليوم: عودة الوعي النقدي لدى الكاتب، وليس فقط ضد القوة الخارجية، بل أيضا ضد هذه القوى الداخلية التي تدير شؤون البلاد، إذ غالبا ما بدا الكاتب الراحل كأنه صوت نيجيريا وعبرها صوت افريقيا بأسرها.
هو أكثر من صوت، وبرحيله ثمة أشياء بالفعل تتداعى في هذا العالم.

اسكندر حبش

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...