غسان الرفاعي: إدارة الأزمة لا حلها
حينما يتغلغل الإحباط في نسجك، وأليافك، ويفقدك القدرة على التآلف مع الأحداث، يتحول ذهنك إلى صندوق ذكريات، تترتب فيه أماكن الإمتاع والمؤانسة، وأزمان الدسم الفكري، وإذ ذاك يبدو لك الواقع الذي يطوقك بفواجعه ومخازيه، «مسرح عبث مؤقت»، لابد من أن يزول، طال الزمن أم قصر.
ـ 1 ـ
منذ بعض الوقت، أسقطت من فضائي الثقافي هوايتين طالما استأثرتا بوقتي، وحماستي: «النقار» الفكري مع رفاق الخندق، واقتناء الكتب الحديثة، بدأت أشعر أن جلسات النقار فقد ألقها، وأخذت تشكل عبئاً على أعصابي، بعد أن فتر أوارها، وانقلبت إلى روتين مضحك مكرور، ولم أعد (الوب) عن الكتب العربية الجديدة عند (الوراقين) إثر صدمات متتالية، أقنعتني، آخر الأمر، أن هناك نضوباً في الإبداع العربي، تضافرت عدة أسباب على تفشيه، ليس أقلها هذا النظام القمعي الذي يتغلغل في العقول، ويشل الأقلام، إلى أن انتشلني أحد الأصدقاء، من المعروفين بجديته وتساميه، من الفاجعتين معاً، لقد وفّر لي أولاً جلسة نقار -لا أروع ـ أعادت الدفء إلى شراييني المتيبسة، مع الدكتور جابر الأنصاري، استاذ الدراسات العربية في جامعة البحرين، ثم حصلت ثانياً على كتاب عن تكوين العرب السياسي يحمل إهداء دافئاً من الدكتور الأنصاري، وإذ أنقل ما جرى في هذا النقار، بعد عدة سنوات، شعوراً مني بأهميته وعمقه، فلأنني متأكد من ارتباطه بالأحداث، وأنه لم يفقد شيئاً من طزاجته وحداثته.
ـ 2 ـ
لقد تمحور هذا النقار حول أربعة طروحات مثيرة، أجاد الأنصاري في عرضها والكشف عن تضاريسها الظاهرة، وأعماقها المتبطنة.
أولها، أن السائد في الوضع العربي العام هو منطق إدارة الأزمة، لا منطق التحليل والتصدي. إن الشعار الذي تتعامل معه السلطة العربية في الشأن السياسي هو (سلطان غشوم، ولا فتنة تدوم)، وقد تأرجح هذا الشعار بين حدين: حد القطيعة بين الحاكم والمحكوم، على نحو ما أشار إليه الغزالي حينما قال: (لا تخالط الأمراء، والسلاطين، ولا ترهم، لأن رؤيتهم، ومجالستهم، ومخاطبتهم آفة عظيمة!)، وحد العصيان على الحاكم، حتى لو أدى الأمر إلى التنكر لما هو أساسي وجوهري في الدين، على ما ذكره ابن تيمية حينما قال: (إن الله ينصر الدولة العادلة، وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة، وإن كانت مؤمنة).
وثانيها، أن المواطن العربي ثلاثي الانتماء، من حيث أراد أو لم يرد، فهو إسلامي في العقيدة، حتى لو ادعى العلمانية، وعروبي في الثقافة حتى لو انحاز للغرب منهجاً وقناعة، وطائفي في عصبيته، مهما غلف هذه الطائفية بالأقنعة القومية والأممية، وكما يقول الأنصاري: هذا الولاء الثلاثي نشأ في واقع التاريخ، ومازال قائماً، وقد تزايد مؤخراً بروز التعدديات المجتمعية الصغيرة، من قبلية وطائفية على حساب البعدين الآخرين: الحضاري الشامل، والسياسي العلني الملتزم.
وثالثها، أن السؤال الأساسي في التوجه السياسي العام هو (من يحكم لا كيف يحكم!). لقد تخضب التاريخ العربي الإسلامي بالدماء، بسبب هذا الهوس بشخصية الحاكم أكثر من الاهتمام بطراز الحكم وهويته، وكانت المفاضلة دوماً هي بين القبول بالاستبداد، أو التعرض للفتنة، لا بين الاستبداد والحرية، وقد دأبت الزعامات المتعاقبة في البلدان العربية على فرض الاقتناع العقائدي بفائدتها وضرورتها، ولم تحاول أن تؤسس تنظيماً راسخ الأركان يثبت الدولة من حيث هي دولة، لا الزعامة الفردية، والولاء التعاقدي معها.
ورابعها، الطلاق الفاجر بين الذين يحكمون ولا ينتجون، وبين الذين ينتجون ولا يحكمون، والتناقض المهين بين بنية مجتمعية مدنية محكومة وبنية سلطوية فوقية حاكمة، وكأن هناك قوى من الإقطاع العسكري اختصاصها الحكم والحرب، وتحتقر العمل الإنتاجي، وقوى أخرى من المجتمع المدني مجردة من السلاح، تمارس الإنتاج، وتستبعد من السلطة السياسية أو التمثيل السياسي، ومن هنا فإن الانتقال من نظام إلى نظام، ومن مستبد إلى مستبد آخر، لم يكن أكثر من زوبعة في فنجان، وقد اقتصر الأداء على التفاخر والتصاغر، ولم يتناول الحفر والتنقيب فيما تحت التضاريس الظاهرة، ومن هنا أيضاً فإن التناوب بين حكومات تقليدية وإصلاحية وراديكالية لم يؤثر في بنية الحكم، ولا في طبيعة الأداء البائس، وبقيت النكبات تنخر في جسد الأمة.
ـ 3 ـ
كما أفرزت الحرب الباردة (بارونات) الحزب الواحد، ومنظري التصلب العقائدي، فكذلك يفرز النظام العالمي الجديد دراويش الديمقراطية، وكما غشنا البارونات عن التحرر الوطني والمساواة والعدالة، فإذا بنا نكتشف بعد فوات الأوان، أن التحرر الوطني لم يكن أكثر من تواطؤ غير وطني، وأن العدالة لم تكن أكثر من تكريس للإثراء غير المشروع، وأن المساواة لم تكن أكثر من الإغداق على اللقطاء والمحاسيب، فكذلك يغشنا دراويش الديمقراطية الجدد عن الحرية والانتخابات، واقتصاد السوق، وها نحن نكتشف أن حريتهم هي قفص جديد للكلمة النزيهة الصادقة، وانتخاباتهم هي مهرجانات الارتزاق والنفاق، واقتصاد سوقهم هو ترسيخ للرشوة والاستثمار البربري.
إن «الغرب الديمقراطي« يشجع، وسوف يشجع الديمقراطية في الأقطار التي لا تخضع لهيمنته، من أجل انتزاعها من نفوذ القوى المنافسة أو المناوئة، ولكنه لن يشجع على التحول الديمقراطي وليس من مصلحته أن يفعل ذلك في المناطق التي تخضع لنفوذه وسيطرته.
وبعد أن يضمن سيطرته على الوطن العربي، فإن «الديكتاتورية» هي الإطار الأسلم للحفاظ على السيطرة العملية على موارد المنطقة، كما هي الوسيلة الأولى لفرض إسرائيل على شعب عربي لا يزال يعيش تأسيسها «كجرح لا يندمل».
ـ إن المواطن العربي، بعد مرحلة طويلة من الاستبداد العلني والسري، والخوف من مجابهة الحقيقة، والهرب من الواقع عن طريق التغطية أو التضخم المرضي، بدأ يتطلع إلى أن يعيش »باسمه الحقيقي« خارج نطاق السرية اللاشرعية، لقد تعب المواطن العربي من حمل الهويات اللاتاريخية والفئوية والطائفية والعشائرية، كما تعب من حالة العطالة أو انعدام المسؤولية، وحياة التسكع الاجتماعي، والتبعية للغير، واللافاعلية السلبية.
ـ وينبغي الكف عن تصور الديمقراطية وكأنها ابتزاز للمعارضة أو الشعب، ولا يجوز أن تناقش التحولات الديمقراطية كما لو كانت «منة» يقدمها الحاكم إلى «شعب لا يستحقها» أو كأنها نوع من المساومة السوقية التي تقضي بتقديم جزء من الحريات، بشرط أن يثبت الشعب حسن نيته والتزامه بقيادته وتمسكه بالهدوء والطاعة. إن المجتمعات العربية ليست بحاجة إلى «واجهة ديمقراطية» شكلية وإلاّ فإن النتيجة ستكون أخطر من عدم التغيير، أي الإحباط، بالإضافة إلى الشعور بالحرمان والفشل والظلم، ومن المؤكد أن ديمقراطية «الواجهة» تعطي النظم القائمة مهلة، لكنها تزيد من تفاقم الأوضاع وتعمق مشاعر الرفض قبل الانفجار إن الديمقراطية «المغشوشة» أخطر على النظام العام من الديكتاتورية الصريحة.
ـ 4 ـ
إن الانتلجنيسا العربية، وقد خيل إليها أنها احتلت مكاناً رفيعاً في المجتمع وأن دورها قد تورم بما فيه الكفاية، ما زالت مصابة (بالخصاء)، لقد تقلصت ولم تعد أكثر من «تراكم من الموظفين المطيعين» يتخبطون بين الولاء الظاهر والتمزق الباطن، فلا هم مرتاحون لما يصدر عنهم من إنتاج، ولا هم قادرون على إطلاق العنان لقناعاتهم وكأن هذه الأنتلجنيسا تعيش في «حوجلة» مسيجة، وقد تقطعت الأسباب بينها وبين ما يضج ويتحرك في العالم الخارجي.
إن المثقف العربي هو في موقع الإحراج المطلق، إذا ارتبط بقضية ولو بشيء من التحفظ اكتشف أنه مرغم على أن «يخون الحقيقة» التي يزعم أنه يدافع عنها، وإذا ما استرد حريته بعد فترة من الالتحاق فإنه يعرّض نفسه للاتهام بأنه «مرتد» وإذا ما رفض أي التزام أو التحاق فسيدان، لابد «بالخنوثة» السياسية أو الاجتماعية.
د. غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد