غسان الرفاعي: الإصلاح «المهذب» والطبقة الوسطى
ـ 1 ـ هناك تحرك سياسي ناعم، يتلمس طريقه، بلا جلبة ولا ضوضاء في عواصم العالم، لا يسعى إلى التغيير القسري، وإنما إلى الإصلاح «المهذب» لا لأنه يتجنب «الثورة المفرطة» وإنما لأنه اكتشف أن العنف مصيدة للتقدم والازدهار، انه تحرك إصلاحي ـ راديكالي مستمد من فلسفة الأنوار، من الإيمان بالعقلانية النقدية، لقد ولّد تفجر الإيديولوجيات والعقائديات احترام التعددية، خارج نطاق التعصب السياسي، واللغة الخشبية، كما أدى إلى الاعتراف بالمنطق الذي يتذرع به المتمسكون بالرأي الآخر.
تتطلب الحكمة التي يتسلح بها دعاة الاصلاح المهذب ألا ينفصل مفهوم الحرية عن مفهوم المساواة، وذلك أن الحرية من دون مساواة قد توصلنا إلى غابة أو حلبة يتصارع فيها المتنافسون. ثم إن المساواة من دون حرية قد تبرر الاستبداد. كما انه لا يجوز أن نفصل الحرص على جمع الثروة عن الرغبة في توزيعها، وإلا قبل الظلم كقيمة اجتماعية، وكما قال احد كهنة هذا الإصلاح المهذب: «في اللحظة التي يؤدي فيها الاغتناء إلى اعتبار رأس المال كغاية بحد ذاته، لا كوسيلة، أي في اللحظة التي ينقلب فيها المال إلى نقد متراكم، فان المجتمع بكامله ينقلب إلى «بورصة قيم» لا خيار للإنسان فيها إلا بين السلوك الانتحاري أو النصب اللا أخلاقي...».
ـ 2 ـ
ابرز دعاة هذا التحرك السياسي الداعم ـ وهم من جماهير الطبقة الوسطى التي استبعدت عن الشأن العام في كل مكان تقريباً - ثلاثة موضوعات «مارقة» في الندوة التي نظموها في جامعة السوربون بمشاركة عدد كبير من المثقفين الأوروبيين والعرب:
إن ضحايا القهر السياسي والاجتماعي لا يستعذبون البقاء كضحايا، ومن المرجح أن يتحولوا إلى جلادين، وقد يفضلون أن ينقلبوا إلى برابرة يمارسون الإرهاب، ومن هذا المنظور لا يوجد في مجتمع القهر أبرياء، وإنما هناك منتصرون وأموات.
إن أكبر مصيبة يمكن أن يتعرض لها الإنسان المعاصر هي الإهانة، إنها أشد وبالاً من الاضطهاد والاحتلال، إنها الجرح الذي لا يندمل وغالباً ما تسبب الثورات المتطرفة الدموية.
قد تكون هناك ضرورة للحرب دفاعاً عن الذات، ولكن لا يمكن اللجوء إليها إلا في الحل الأخير، ثم إنه لا يجوز أن نتناسى انه على الرغم من عدالة القضية التي نخوض الحرب من أجلها لابد أن نعترف أننا نمارس الجنون، ثم إنه في كل مرة يحمل المظلوم السلاح للتحرر باسم العدالة، فقد يرغم على أن يخطو خطوة متلعثمة باتجاه الظلم، كما قال «ألبير كامو» في كتابه «الطاعون».
ـ 3 ـ
كم أدهشتني الصورة الكاريكاتورية الكبيرة التي التهمت غلاف مجلة «ماريان» الطليعية لما أثارته من مشاعر القسوة والفجاجة فقد صورت رجلاً نحيلاً، جاحظ العينين، متدلي اللسان، وقد تحوق حبل المشنقة حول رقبته، وعلى قفا بنطاله الممزق جملة مفزعة: «نهاية الطبقة الوسطى». وحينما قرأت الملف الطويل عن «المجزرة» تولد عندي اليقين أن المجتمع المعاصر، سواء أكان تحت قبضة الرأسمالية الليبرالية المتعولمة، أم كان تحت قبضة حكم شمولي مطلق، لم يعد بحاجة إلى الطبقة الوسطى التي كانت لولب التقدم والازدهار في المجتمعات.
اقتنص الباحث والمؤرخ (إيمانويل تود) مشاهد من فيلم «إننا نصفي الخيول) للمخرج الكبير (سيدني بولاك) التي تصور الإذلال الذي يتعرض له أفراد محترمون من الطبقة الوسطى ليتحدث عن وضع التجار الصغار، الموظفين المهمشين والأطباء، والمحامين، والأساتذة، والمهندسين الذين يعانون من الضيق الإداري، والحصار الاقتصادي وهؤلاء يشدون الأحزمة على بطونهم ويحاولون أن يستمروا في الكفاح، ولا يفزعهم إلا احتمال تعرضهم للفضائح أو إخضاعهم للإذلال الاجتماعي والمادي.
ـ 4 ـ
كان أفراد الطبقة الوسطى هم رابحو الجوائز المحظوظون في النظامين الرأسمالي والشمولي المطلق، ولكن حين انزلق النظام الرأسمالي المحلي إلى العولمة، وأصبح اسير الشركات الكبيرة، والمتعددة الجنسية وحينما تحول بيروقراطيو النظام الشمولي إلى مافيات اقتصادية واجتماعية سقطت الطبقة الوسطى بكل ما تحمله من قيم وحوافز وامتيازات، ولم تجد وسيلة للمحافظة على ماء وجهها إلا بالتسول للحصول على شيء من النفوذ ولو بطرق ملتوية لا تتلاءم مع أخلاقيات هذه الطبقة.
مجتمع الطبقة الوسطى ـ كما قال أحد المتحذلقين في الندوة ـ أمام احتمالين: إما أن يتخلع أخلاقياً واجتماعياً فيسمح له أن يصعد، وأن يخترق بعض الخطوط الحمراء، ولكن صعوده مسقوف إذ إن عامل المصعد يحذر المسكين بأنه لا يجوز له أن يصعد أكثر من طابقين، لأن الطوابق الأخرى محجوزة للمتنفذين وأصحاب الحياة، وإما أن ينحدر إلى صفوف «البروليتاريا الرثة» فيصبح مهدداً برزقه، ومرتبته الاجتماعية والسياسية.
المفارقة الكبرى هي أن الصراع الدائر ليس بين المدينة والريف وليس بين أهل الخبرة وأهل الثقة، وليس بين المحافظين والتقدميين وإنما هو بين مسؤولين متنفذين، راكموا الثروة والسلطة والجاه، وبين مواطنين شرفاء أكفاء، حريصين على تحقيق الازدهار بالاعتماد على مؤهلاتهم ومبادراتهم وقد يكون (فرانسوا دولوي) في كتابه «مجزرة النخب» على حق حينما يقول:
«إن الطبقة الوسطى التي كانت تضخ المجتمع المعاصر بالخبرة والدسم الثقافي وترسخ التقدم والازدهار قد تحولت إلى بؤر غاضبة تنذر بشاعة الفوضى، دون أن تكون قادرة على التحكم فيها ولا حتى الاستفادة منها..».
ـ 5 ـ
أقرأ «جريمة عصرنا» رواية يكثر الحديث عنها هذه الأيام حديثاً متناقضاً غير مألوف مؤلفها شاب مهووس يدعى (بيير موستيه) يرفعه بعض النقاد إلى مصاف العباقرة الكبار، وينزله البعض الآخر إلى مرتبة المتطفلين على الأدب والفكر معاً، جاء في التعريف الموجز للرواية: «اضخم إنجاز حققه (بيير موستيه) هو أنه مزج التقنية البوليسية بالهموم الميتافيزيقية في إطار مسرحي، يعتمد على الرعب والهلع، وفي قناعته أن أكبر جريمة في عصرنا هي اغتيال الإنسان الشريف الطيب، في وضح النهار، لا اختفاء العدالة ولا غياب البراءة».
إن عبقرية (موستيه) تتجلى في وصف عملية الاغتيال هذه لا بلغة فلاسفة التجريد وإنما بتقنيات الرواية البوليسية المعاصرة، إن الإنسان الشريف ـ وهو دوماً من الطبقة الوسطى ـ يطارد من منزل إلى منزل، كما يطارد اللص المحترف في الروايات البوليسية، إلى أن يقتل برصاصة مكتومة الصوت، في شارع خلفي على مرأى من الناس الذين لا يجرؤون على التدخل ولا حتى الاعتراض.
والواقع أن حياتنا المعاصرة، بمباهجها ومنغصاتها هي أشبه ما تكون بدغل مكتظ بالتعرجات والمسالك المبتورة، إننا بأمسّ الحاجة إلى خريطة أو بوصلة مفصلة ترشدنا داخل هذا الدغل وإلا ضللنا وابتلعتنا الأشجار السوداء في كل مكان، الإنسان الشريف، مهما تشرنق وكفى الآخرين خيره وشره فلابد من أن يغتال في وضح النهار، فهذه شريعة الحياة المعاصرة، والإنسان الانتهازي، مهما ادعى التمسك بالقيم، وتظاهر بالزهد، فهو القاتل عن سابق تصور وتصميم، وأفدح ما في الأمر أن جريمة الاغتيال مباركة ومسوغة، لاينقصها حتى تصفيق الجماهير المشاهدين، في حين أن انهزام الانسان الشريف ليس مذموماً ولا مستهجنا، ومن المؤكد انه لن يجد أحداً يمشي في جنازته.
ـ 6 ـ
ولكن اسبوعية (ماريان) في ملفها عن انسان الطبقة الوسطى، نصبت مشنقة أخرى «لانسان الطليعة الثورية» الذي تصدر الأحداث والانقلابات طوال القرن الماضي حتى بدايات القرن الحالي. وواقع الحال أن مايجري اليوم هو شجار بين أطر مكونة ثابتة، وأطر تطمح إلى ان تتكون وتثبت. ولئن كان هذا الشجار من طبيعة الحياة نفسها، فإن له أبعاداً خاصة في هذا العصر، وفي مناخات الوطن العربي، على وجه التحديد، وعلى هذا لايجوز ان يطرح التساؤل عن فكر طليعي، دون التنقيب عن الخلفيات التي تكمن وراءه، واستكناهاً لطبيعة الأرضية التي يقوم عليها. ان الاقتصار على شهادة جزازات تقص من هنا وهناك في معرض التدليل على وجود مثل هذا الفكر أو نفي وجوده، أو المجاهدة لالحاقه بهذا التيار أو ذاك، أو المغامرة بربطه بنوع من الزخم السياسي دون سواه، فهذا كله لايرقى إلى مرتبة البحث الجاد، ولاسيما ان جزءاً مهما مما يقال ويكتب هذه الأيام ليس أكثر من اشهار صحفي لانفعال موقوت أو مزور، ولا يمكن ادخاله في أي منظور حضاري للمرحلة التي نجتازها.
ـ 7 ـ
مجنون هذا النظام العالمي الجديد الذي نصب المشانق للإنسان الشريف ولإنسان الطبقة الوسطى، ولإنسان الطليعة الثورية، وللفراديس التي كانت تغذي أحلامنا وطموحاتنا، مجنون هذا النظام الذي سلم مقاليد أموره إلى جشع الاستفراد والاستئثار، وإلى الطغيان العسكري الذي يجعل من الظلم والحماقة قوانين سياسية (عادلة).
د. غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد