غسان الرفاعي: في امتداح الاتساخ
(1)
مازلت أذكر «المبارزة» التي نشرتها أسبوعية «لو نوفيل اوبسرفاتور» السنة الماضية بين «سلمان رشدي» الذي أصبح رئيساً لبرلمان الكتاب في ستراسبورغ، و«برنار هنري ليفي» الكاتب الصاعد دون استحقاق. أثارتني لأكثر من سبب، فهي أولاً توافق على شكل خلاف، إذ يحتدم الخلاف بين الكاتبين ليتوصلا إلى اتفاق انتهازي، آخر الأمر، وفي هذا سخرية بنا جميعاً، وهي ثانياً إشادة بـ «الاتساخ» ورفض للطهارة الفكرية أو السياسية أوالأخلاقية، على أساس أنها «منافية للديمقراطية» وفي هذا استهتار بكل القيم التي توارثناها، وهي ثالثاً، دعوة فاضحة إلى التزوير والاحتيال، بحجة أنه «لا يجوز للمثقف أن يغيب عن المعركة ولو كان عليه أن يكذب»، وفي هذا تفتيت غير أخلاقي للنزاهة الفكرية.
(2)
العامود الفقري لهذه المبارزة الآثمة فكرة كان قد طرحها «برنار هنري ليفي» في كتابه الذي أصدره منذ عام تقريباً بعنوان: «الطهارة الخطيرة» وملخصها أن التمسك بالطهارة الايديولوجية أو السياسية الفكرية تؤدي إلى الأصولية، وأنه لابد من القبول بالاتساخ التعيس لتحقيق السلام والتعايش بين الناس، ومن هذا المنطلق فإن الديمقراطية الغربية التي تنتصر في كل مكان هي «الاعتراف بحق الانسان في أن يتسخ».
(3)
تطرح «لونوفيل اوبسرفاتور» السؤال التالي على المتبارزين: «ألا يتوجب على المثقف أن يبتعد، بعض الأحيان لينقذ نفسه من التورط، وليحافظ على نزاهته و صدقه؟ «وكانت الإجابتان على النحو التالي:
سليمان رشدي: «أنا أفضل أن تتسخ يداي، وأن تغوصا في الطنجرة التي تتماوج بكل القاذورات، إذ لابد من أن أنجح في استخراج شيء ما آخر الأمر.
إن الطهارة أو الرجوع إلى الأصول، مجازفة غير مفيدة. صدقوني كنت دوماً من أنصار أبناء الزنا، إنهم أكثر جاذبية، وقد يكونون أكثر تسامحاً ونبلاً..»
برنار هنري ليفي: «لن أدافع عن الطهارة، ولكن تمر علي لحظات أرفض فيها أن أستحم أمام الناس، وحينئذ، أفضل العزلة، لا لا أخاف من أن تتسخ يداي، ولا أهتف مثل جويس: «ليدمر العالم ما دمت أنا مازلت حياً، غالباً ما يصيبني القرف، وأشعر أنني لم أعد أكترث بشيء..»
وحينما تسألهما «لونوفيل اوبسرفاتور»: «وكيف يكون الاتساخ؟) تأتي إجابتان مدهشتان حقاً.
يقول رشدي: «الإعلام هو المغطس المليء بالمياه العكرة، حينما أظهر على شاشة التلفزيون، فأنا لا أكترث بما أقول، وإنما بما سيكون عليه مظهري، وهل نجحت في التأثير على الرأي العام أم لا».
ويقول هنري ليفي: «الإعلام في الأنظمة الديكتاتورية الشمولية يعتمد على القمع والإكراه، في حين يعتمد الإعلام في الأنظمة الديمقراطية الليبرالية على الاحتيال. علي أن أكون ماكراً، محتالاً، وأن أنتصر على محتالين آخرين، ولماذا الخجل؟».
(4)
تضايق «أورتيفا أي كاسيت»، وهو فيلسوف اسباني يتهم بالرجعية المترفة من «مداهمة الجماهير الجائعة لمعابد الثقافة» كمداهمتها «لأفران الخبز» ووصف عملية المداهمة بأنها «انتهاك رخيص غوغائي، تستهدف تقويض الحضارة وهتف بغضب: «أيها الجلادون الصغار، أوقفوا هذا الزحف البربري، لا يحق للغث أن يطالب بحقه في أن يكون غثاً، وتجري اليوم، تحت شعار «الشفافية التاريخية» مداهمة أخرى للحياة الخاصة لكبار المفكرين والمبدعين من الذين وفروا لنا «الأثاث الاساسي لبيوتنا الثقافية» بهدف تعريتهم وإظهارهم «كأوغاد أو سفلة ومحتالين» وإلا كيف نفسر هذه التحقيقات البوليسية التي أخذت تغزو المكتبات في كل مكان، وتدور حول «الحياة السرية» الحقيقية لكبار الكتاب والمصلحين. هل انقلب المؤرخون الجدد إلى عمال تنظيفات محترفين، لاهم لهم إلا تكنيس الأرض وشطف المداخل وإزالة البقع؟
(5)
نحن موعودون بثلاثة كتب جديدة في الشهر القادم: سيرة جديدة لـ« جان بول سارتر» تظهر أنه كان غشاشاً مع دور النشر، وانه لم يكن يؤمن بما يكتبه، وقد نسب إليه قوله: «كم هو سهل الضحك على الناس! يزعمون أنني صاحب فلسفة وجودية جديدة، ولكن كيف يتصرفون إذا أعلنت لهم أن كل أفكاري تتدفق علي وأنا بالمرحاض؟».
وكتاب آخر عن «برنارد شو» يكشف بعض خبايا حياته الخاصة. وجاء في الاعلان عن الكتاب هذه الفقرة الاستفزازية: «هل تعلم أن «برنارد شو» كان موظفاً في جهاز الاستخبارات البريطانية، وأن سخريته الذائعة كانت مدفوعة الأجر مقدماً)؟ «وبتحقيق على غاية من الاهمية عن «آرثر كوستر» يثبت أن تهجمه الرائع على القمع الداخلي في الأنظمة الشيوعية، ووصفه لوحشية التحقيق في أقبية التعذيب في دول أوروبا الشرقية كان بوحي مباشر من «ستالين»، أو على الأصح من «بيربا» الذي نفذ فيه حكم الاعدام؟ وأنه لم ينتحر إلا بعد أن هددوه بالكشف عن علاقاته بالمخابرات السوفييتية؟
والسؤال المطروح هو: «لماذا هذه الكشوف الآن، وبمثل هذه الغزارة؟ أهي دعوة حارة الى المثقفين للتخلي عن النظافة الفكرية والأخلاقية؟ ومادام التلوث السياسي والاجتماعي الذي تتزعمه الامبراطورية الصاعدة «الولايات المتحدة» يتفشى في كل مكان لماذا لا يشمل بعض الرموز الفكرية والابداعية؟
مريبة هي هذه الدعوة إلى «تمجيد الاتساخ» وإدانة الطهارة على أساس أنها «أصولية ارهابية مستترة»، وبذيئة هي هذه المحاولات الخارقة التي تقوم بها الآلية الثقافية الأميركية لتشويه سير رجالات الثقافة الرصينة في التاريخ، وتقديمهم على أنهم «محتالون ومنافقون!» ثم إنها فاجرة هذه الحركة المعاصرة التي تصور الدسم الفكري والثقالة الثقافية على أنها «بدانة مؤذية» و«تورم شحمي» ينبغي التخلص منهما. صحيح أننا نشعر بعض الأحيان وفي ساعات التوهج، أننا جميعاً، مدجنون، متعفنون، متصابون، لحوم مضغوطة في علب سردين، شفاه دبقة لا تنفرج إلا بترخيص، قصبات مجوفة بلا نغم، ولكن شعورنا هذا هو تفريج عن ضيقنا، بسبب اختناقنا في أقبية المونولوج السلطوي، وصوامع الإكراه الإيديولوجي، وليس دليلاً على أننا فائضون عن الحاجة وأن دورنا لا يعدو «التزوير والتزويق».
المشكلة الأساسية هي أنه قد احتضر فينا أو كاد ذلك الحنين إلى الحوار، إلى الهندسة الروحية، إلى الافتضاح الفكري، ألعلنا فضّلنا أن نحتبس في المقاسات والضواغط، ونمارس التخلي دون أن نهدد بالعقاب، ونقبل الزلفى دون أن نوعد بالثواب.
د. غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد