غسان الرفاعي يستعيد ذكرى ثورة الـ68
ـ 1 ـ حينما أعلمتني زميلة في نادي الصحافة أنها ستشارك في احتفالات حاشدة تقام في الحي اللاتيني، بمناسبة مرور أربعين عاماً على «ثورة مايو 1968» تماوج فيَّ مزيج من الفرح الطفولي والغضب المقهور، وقررت أن أرافقها.
قالت الزميلة في تخابث بريء: «نحتفل بمرور 40 عاماً على ثورة الطلاب في مايو 1968، وكل ما حولنا يشير إلى أن مناخات عام 1968 تتخمر من جديد، بعد أن أعلن الرئيس نيكولا ساركوزي أن برنامجه الإصلاحي يعتمد على إلغاء «الفوضى المدمرة» التي أتت بها ثورة 68، وأنه عازم على إرجاع تقاليد لويس الرابع عشر، وماري انطوانيت، وتحويل قصر الاليزيه إلى قصر فرساي...».
حينما تسللت بين صفوف الشباب الغاضبين في صالة روبسبيير في الحي اللاتيني، شعرت بأنني لص يقتحم بيتاً ليس له، أو متطفل يسترق السمع من ثقب باب، لم أكن ـ بالبياض الذي يوخط شعر رأسي، وبواكير التجاعيد التي انزرعت في وجهي ـ إلا من بقايا جيل مهزوم مقهور، يتبرأ من ماضيه، وحاضره، ويرتعد من مستقبله.
قالت لي فتاة معصوبة الرأس، وقد وشحت جبينها الأبيض الناصع بجملة مكتوبة بالأحمر: «لا للأوغاد، لا لزوج عارضة الأزياء كارلا»: «هل أنت معنا؟» ووجدتني أقول، وكأنني أتخفف من قرون من القمع: «مع أي تمرد، في أي مكان، وضد أي شيء!» لقد تقرح عمري، وأنا أمتثل، وأطيع، وأبارك، وأمتدح، وأصفق!».
ـ 2 ـ
وتذكرت ـ وأنا مغمور بالهتافات والأناشيد ـ اجتماعاً حاشداً في الطابق الأول من مقهى «كلوني» في حزيران من عام 1968، تناوب على الخطابة فيه عدد من الشباب العرب الغاضبين، تفننوا في الدعوة إلى التفجير والتدمير، بهدف تعبيد الطريق إلى مستقبل وضاء مشرق، وفي آخر الاجتماع كان أحد الخطباء يردد بلا انقطاع: «ماذا تريدون؟» وكنا وقوفاً، نجيب، بصوت راعد: «المعاول، المعاول!» كما أذكر اجتماعاً حاشداً آخر في الصالة الكبرى من مطعم «لوكربي» ضم جمهوراًَ كثيفاً من شباب يتماوجون مرارة، وكان خطيب آخر يهتف: «إلى المتاريس، إلى المتاريس!» ويكرر وراءه المئات: «إلى المتاريس، المتاريس».
وكانت «الأوكار الثقافية» المرتشقة على امتداد شارع سان جرمان دوبريه، والدكاكين الثورية المتناثرة في سان ميشيل ومونمارتر، تستقطب شباباً «هامشيين» يضجون في صخب يشابه ضربات طنبور الكتروني في حانة ليلية مغلقة، وكانت «سلتهم المتمردة» تشتمل على أفكار بسيطة:
ـ أكبر جريمة اقترفها الفكر الثوري المعاصر أنه ألغى «الخارق» وفضل عليه حتمية التاريخ، الثورة ليست عملاً روتينياً يفرضه تطور لا غنى عنه، إنها حدث خارق لا شظية في تتابع مرسوم.
ـ إن إقحام الميتافيزيقيا مجدداً في الواقع اليومي خطوة لا بد منها للتخلص من اليأس الذي يتفشى في كل مكان، لقد حدثت عدة محاولات للثورة على الواقع المرفوض، ولكنها أدينت من قبل «الكهنوت الثوري التقليدي» قبل أوانها، وقيل بأنها محاولات طائشة، ولكن الطيش صفة ملازمة للثورة، ولا يجوز التخلي عنه.
ـ ليس صحيحاً أن ما هو سياسي أرفع مما هو ثقافي، الثورة التي تبدل العلاقات الاجتماعية تبديلاً جذرياً هي ثورة ثقافية، و«ماوتسي تونغ» على صواب في إصراره على «الثورة الثقافية!» ثم إن الثورة مغامرة وليست عملاً متزناً، المتزنون ينصّبون مديري بنوك أو رؤساء وزارات أو رجال شرطة، أما المغامرون فهم الذين يضعون حداً للاضطهاد والانسحاق والاستلاب.
ولكن هذه الطزاجة الثورية قد تلاشت اليوم لثلاثة أسباب: أولها، أن شباب اليوم قد اكتهلوا قبل أوانهم، وأصبحوا جزءاً من طاحونة المجتمع الاستهلاكي، وثانيها، أن الدعوة التي أطلقها شباب ثورة الـ68 والمتمثلة في «اركضوا، أيها الرفاق، العالم القديم قد أصبح وراءكم!» قد سحبت من التداول، إذ أصبح حلم الرفاق هو العودة إلى استقرار العالم القديم، وثالثها، أن النشوة التي غمرت شباب الـ68 قد تحولت إلى إحباط وشعور باللاجدوى، والاستلاب، بعد أن تفاقم اضطهاد الشعوب، وتعاظم الظلم والقهر والفجور.
ـ 3 ـ
ولكن ما الذي تداعى واحتضر، حتى بات المجتمع الفرنسي المعاصر الذي كان يفاخر بازدهاره يغوص في متاهات اليأس والقنوط، ما دفع بشبابه إلى استعادة مناخات ثورة الـ68؟.
يزعم «جان دور ميسون»، عضو الأكاديمية، والكاتب الذي ما يزال يغني الأدبيات بمقالاته اللاذعة، أن ثلاث ارتكاسات قد بدّلت الطبوغرافيا الاجتماعية في بلاده: أولاها، ضمور الأمل في النفوس، يقول: «كان على جدار برلين أن ينتظر 20 عاماً قبل سقوطه، ولكن ما إن سقط حتى حلت كلمة مطالب مكان كلمة ثورة، واختفت العدالة لتأخذ مكانها المكاسب، وثانيتها الماركسية، إذ كانت جميع الآمال معقودة على الماركسية التي كانت تضج بالتفاؤل، وتعد بإنجازات خارقة، ولكنها خيبت الآمال، وتركت الساحة فارغة، وثالثتها الجنون الانتحاري، كان شباب أعوام الـ68 أصحاب رؤى واضحة، أو على الأقل يطمحون إلى بناء عالم جديد، أما شيوخ الـ2007 و2008 فهم محالون على التقاعد مسبقاً، ليست لديهم مطامح، وإنما ذكريات، إنهم يثيرون الشفقة، ويستدرون الرحمة، لأنهم محاصرون في شبكة من التناقضات التي لا يمكن أن يخرجوا منها دون خسائر فادحة، ويبدو أنهم عاجزون عن التحرر من ضعفهم، ولهذا يخشون من التقدم إلى الأمام، وهم على قناعة أن أي تغيير مستقبلي هو نوع من الجنون الانتحاري...».
وواقع الحال أن مرجعية اليسار الفرنسي كانت دوماً هي ثورة الطلاب عام 1968، ولكن مثقفي هذه الثورة اكتهلوا، وزحف عليهم الجفاف السياسي والثقافي، بعد أن انقلبوا إلى «موظفين مدجنين» يعملون في «طواحين مجتمع الاستهلاك» بأجور لا تتناسب مع مؤهلاتهم وكفاءاتهم.
ويقدم «جان دور ميسون» صورة قاتمة جداً عن واقع بلاده حينما يقول: «لقد تقدم بنا العمر، ويخيل إلينا أننا دخلنا مرحلة الانحطاط وبدأ الزمن يثقل كاهلنا، نحن دولة شابة تزداد فقراً وشيخوخة، وما يقال عن ازدهارنا وأمجادنا، بل حيويتنا هو جزء من ماضينا، ولا يمكن إسقاطه على المستقبل، ما عاد صراخنا يعبر عن رغبة في الانخراط في لجج الحياة، ولكنه صراخ مواطنين ينتظرون نهاية مسيرتهم، ولسان حالنا: «امنحونا فترة أطول قبل الاحتضار...».
ـ 4 ـ
استبد الفرح بالغرب، بعد سقوط جدار برلين، فأسرع إلى دفن جثمان الشيوعية، في حفرة مشتركة مع النازية، وأصبح يفتقر، منذ ذلك الوقت، إلى بوصلة فكرية ترشده إلى التمييز بين الخير والشر، وكان من نتيجة اختفاء هذين «الشريرين» انبعاث التيارات التخريبية التي انهالت بمعاولها الهدامة على التراث الأخلاقي، ما جعلنا ـ كما يقول «دومرسون» ـ نعيش «مرحلة انخفاض منسوب المياه الميثولوجية والايديولوجية معاً».
ولكن ما الذي حدث؟ لقد برزت «ايديولوجيا غير مرئية» هي «أصولية المال» كمقياس وحيد للنجاح والارتقاء، لقد كان من الطبيعي، بعد انهيار الشيوعية والفاشية أن يسقط الحقد الأعمى ضد المال وأن تستعيد الرغبة في الربح مشروعيتها، خاصة أن الحقد على المال لم يكن أكثر من قناع أو ستار لارتكاب فظاعات وحماقات، وجرائم تجاوزت كل الحدود، كان نجوم المجتمعات الغربية هم أبطال الحروب، وقادة الفتوحات، فإذا بهم يستبدلون، بين عشية وضحاها برجال الأعمال الذين يستعرضون بذخهم وفضائحهم العاطفية على صفحات المجلات «الراقية».
وفي مقابل هذه «الايديولوجيا غير المرئية» بدأ إمطار المشاهدين على شاشات الأقنية «الأممية» بمناظر المجاعات والأوبئة والحروب الأهلية والاقتتال الطائفي والاثني، وإذا بالعالم يتحول إلى «فيديو ـ كوكبي» يثير الشفقة ويستدر العطف، وفجأة بدأ الحديث عن «الواجب الإنساني» وعن ضرورة التدخل لإنقاذ الإنسانية من الكوارث، وفجأة بدأت الدبلوماسية الغربية تكثر الحديث عن الدول «غير الناضجة» التي يجب إدارة أمورها، وعن ضرورة «نشر الديمقراطية»، ولو عن طريق البوارج الحربية والصواريخ والمدافع، ألم يكن «روجيس دوبريه» على حق حينما أعلن بأن القرن الحادي والعشرين يشهد «عودة الإمبريالية البيضاء» أو ما يسمى «عبء الإنسان الأبيض؟!».
ـ 5 ـ
كانت المفاجأة الكبرى في صالة روبسبيير في الحي اللاتيني هي ظهور فتاة جزائرية، في ربيع العمر، وصعودها إلى المنبر، ومخاطبتها للحضور وكأنها تلقي مرافعة ضد الاستبداد الذكوري إذ كانت تقول:
«لن تجعلوا مني آلة لنسخ غثاثتكم، ولن أفقأ عيني للتستر على تخاذلكم، ولن أجعل من ذاكرتي مخزناً لتخاذلكم، أشعة الشمس تحرق شراييني، ووهج الحقيقة يغلي في قلبي، وصرخة التمرد تنطلق من شفتي جارحة، مؤلمة، قاتلة.
إنكم مزورون، لا فرق فيكم بين من يحتمي بالتراث ومن ينتحل المعاصرة، منافقون، لا خلاف بين الحاجب الذي يقف على باب السلطان، والمتمرد الذي يزرع الموت في الساحات العامة.
ےترتجفون؟، هل أخافكم أن تسقط الأقنعة عنكم امرأة شابة تعودتم أن تحتفظوا بها جارية في سراياكم، وألفتم أن تصلبوها في أقبيتكم؟!». ـ 6 ـ
شعرت بأن الجيل المبرعم الجديد يرفع رأسه، ويدق أبواب المستحيل، ليكشط عنا طيات من الخمول والكآبة، وليجري في عروقنا دماء طازجة جديدة، قد يبدو تحركه متلعثماً، وصراخه مبحوحاً، ولكن هذا التحرك من تباشير الصحة، ومن أمارات العافية.
غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد