قرية يونانية على الشاطئ السوري
هذه ليست واحدة من المدن التي خلّفها مرور الاسكندر الأكبر في مواقع مختلفة من بلادنا، إنها قرية «نسيج وحدها»، هاجرت جزيرةَ كريت اليونانية على دفعتين بين عامي 1896 و1898، بعدما قرر السلطان عبد الحميد سحب مسلميها وحمايتهم إثر حرب أهلية طاحنة، وبنى لهم حوالى مئتي منزل، جنوبي مدينة طرطوس الساحلية السورية، عهد بها إلى مهندس روسي فخطط لكل عائلة منزلاً بغرفتين وصالون يفضي إلى فسحة سماوية تنتهي إلى مطبخ، وسميت القرية بالحميدية نسبة إلى السلطان الذي حمل كثير من مواقع وأسواق أخرى اسمه.
البيوت التي بقيت على حالها اليوم قليلة، وبالكاد تعثر على جدار أو بقية بئر، عدا عن مسجد القرية الوحيد الذي احتفظ بعمارته كاملة.
لكن بالإمكان تمييز أهل القرية، فملامحهم يونانية، وإن كانت ملابسهم مشابهة لملابس سكان القرى المحيطة، ففي النهاية كل أهل القرية يدينون بالديانة الإسلامية.
ومع الأيام تغيرت ملامح القرية، التي يسكنها اليوم نحو ستة آلاف نسمة نصفهم فقط من اليونان، ذلك النصف الذي ما زال على لغته الأم، فالأطفال هنا لا يعرفون العربية إلا عندما يرتادون المدارس، وهم في الغالب لا يتابعون دراستهم، وسرعان ما يناديهم هدير الجذور، فتجدهم يغادرون مدارسهم قاصدين اليونان أو القسم اليوناني من جزيرة قبرص.
ولكنهم، كغرباء عن بلادهم الأصلية، تجد معظم شبان القرية خارج قريتهم، معظمهم يعمل في أشغال بحرية. وعدا اللغة فإن أهل القرية اندمجوا تماماً في عادات محيطهم، فمع الأيام اختفت مأكولاتهم الخاصة، كما اختلطت الأغاني، فيمكنك أن تسمع أم كلثوم أو صباح فخري مترجمين إلى اللغة اليونانية، أو يمكنك أن تكتشف الأغاني العربية المترجمة عن اليونانية في الأصل، كـ«آه يا أم حمادة» التي يغنيها محمد جمال.
حتى أسماء الناس هنا تحولت إلى أسماء عربية، مع استثناءات قليلة لأسماء مثل ياني ويورغو، ولقد اندمج هؤلاء في ثقافة المنطقة إلى حد أنهم يخضعون للخدمة العسكرية الإلزامية، بل وفي ذاكرة الكثيرين منهم ذكريات من حروب المنطقة، خصوصاً حرب تشرين 1973.
ويقول مصطفى أمين (مواليد 1935) وهو مدير مدرسة سابق، إن لقب العائلة الأصلي فنتوراكي، لا يتحدث كثيراً عن الحنين إلى تلك البلاد التي هجرها أبواه في عز شبابهم، ويقول إن المرة الوحيدة التي زار فيها موطنه الأصلي كانت في إطار زيارة حزبية (حزب البعث).
وحين نستهجن أن ينتمي رجل من أصل يوناني إلى حزب قومي عربي، يفسر هو ذلك بالعــــودة إلى الأصل القديم، فـ«عندما انكسرت الدولة الإسلامية في الأنــــدلس ركب المهزومون زوارقهم واتجهوا في غالبيتهم إلى جزيرة كريت اليونـــانية».
يحاول الرجــــل بالطبع أن يقول إنهم من أصل عربي، وإن الدوائر دارت فعادوا إلى جذورهم، ولـــكن من دون أن يتخلوا في معظمـــهم عن العمل في عرض البحر أو في مقالع الحجارة.
راشد عيسى
المصدر: السفير
التعليقات
شو اسم القرية الان
إضافة تعليق جديد