قطار النوم السريع «ليوسف جباعي».. القصة كتأمل فلسفي
استوقفتني ملياً، المجموعة القصصية ليوسف جباعي، الصادرة حديثاً عن «دار نلسن»، ورأيت فيها قصصاً سيكولوجية تقع في قلب جماليات القصّ. سرد رشيق وواثق، يتمحور أو يهتم بلغز النفس البشرية، محاولاً الإمساك بها وفهمها؟ ما هي النفس البشرية؟ هو السؤال الأساسي المختبئ مع ذلك، حول القصص القصيرة للجباعي، يحاول الإجابة عنه في اتجاهات متنوعة كل منها معني بقصة مختلفة. الجباعي يحدثنا ببساطة عما يُشبه يوميات كائن من هذا العصر، عن الأحلام والمغامرات والأفعال، ومن خلال الأحلام يتخطى الإنسان تكرارات الحياة اليومية، حيث يشبه كل فرد الآخر، ومن خلال الفصل يميز الإنسان نفسه عن الآخرين وتصبح له فرديته الخاصة التي نقع عليها كقراء في كل أقصوصة على حدة.
يمتاز يوسف الجباعي بقربه من حيوات كل منا، فهو في مجموعته «قطار النوم السريع» يعقد قراناً مع القارئ منذ لحظة القراءة الأولى، لما تتمتع به عوالم رواياته أو قصصه، من شبه لعوالم كل منا كما لو يكشف صورنا في الكتابة. الجباعي ينظر إلى الفعل الذي تقوم عليه القصة، كصورة شخصية لمن يقوم به. لقد وضع كل قصة على طريق اكتشاف الحياة الداخلية للإنسان، مُدعّماً بالأحلام التي تساعد في هذا الاكتشاف. يُركّز الجباعي في جُمله القصيرة، على اللحظة الحاضرة عند كل من أبطال قصصه حتى ليبدو أن لا شيء أكثر وضوحاً، وأكثر واقعية، وأكثر مادية من اللحظة الحاضرة، ومع ذلك فهو يدعها تفلت منه بعض الشيء (في تكتيك تأليفي) لكي يصل إلى غايته القائلة بأن كل حزن الحياة يكمن في هذه الحقيقة: إن حواس النظر والسمع والشم تسجل في ثانية واحدة (بوعي أو بغير وعي) حشداً من الأحداث، وموكباً من الأحاسيس والأفكار التي تعبر رؤوسنا، كل لحظة منها تمثل كوناً صغيراً، وتُنسى تماماً، في اللحظة التالية.
أحببت كافة القصص التي يرويها «قطار النوم السريع» وأحببت أكثر أقصرها المعنونة بـ«أروع الأنغام» حيث يتحدث الجباعي عن الببغاوات التي تمارس العادة السرية في إحالات وإسقاطات على الأصوات التي تتردد وتنتشي بذاتها. القصص يتداخل فيها الحلم بالواقع، بل يبدو الحلم أكثر واقعية من الواقع نفسه، لما أن القصص لا تستطيع أن تخرج عن حدود إمكاناتها سوى بالحلم الذي يُظهر حدودها للضوء، ويروح يتوغل في الذات البشرية في اكتشاف هائل في حد ذاته، ونصر كبير للمعرفة والوعي. طريقة الجباعي في إدراك الذات من خلال الأحلام، غير متوقعة تماماً، وتتم من خلال متابعة الأفكار التي تتركز بشكل مطلق على الموقف الذي يصادف الشخصية في النهار الذي يسبق الحلم.
الحياة بالنسبة إلى جباعي هي مصيدة، لمّا أننا ولدنا من دون أن نستثار، ووضعنا في جسد لم نختره، ومنذورون للموت. من ناحية أخرى، كان اتساع الحلم يوفر إمكانية دائمة للهروب. كان الزوج التعس يستطيع الهرب من زوجته وبدء حياة أخرى في مكان بعيد يوفره الحلم، فلا يعود هذا العالم منغلقاً عليه مثل قبر. يغيب المونولوغ الداخلي عن القصص، ويستعيض عنه الجباعي بما يمكننا تسميته بالتأمل الفلسفي الذي يلعب ذلك الدور. القصص ككل، ليست إلا استنطاقاً طويلاً، استنطاقاً تأملياً هو الأساس الذي بنيت عليه كل القصص.
عناية جابر
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد