كافكا اللاهوتي بنظر والتر بنجامين

19-07-2015

كافكا اللاهوتي بنظر والتر بنجامين

كتاب «عن كافكا» الذي صدر حديثاً عن دار Nous الفرنسية ليس مجرّد ترجمة للأنطولوجيا التي صدرت عام 1981 بالألمانية وضمّت مختارات من النصوص التي كتبها والتر بنجامين عن صاحب «التحوّل». إنه عمل شامل يضم مجموع كتابات الفيلسوف والناقد الألماني التي رصدها لكافكا، من بينها نصوص كثيرة تُنشر للمرة الأولى. من هنا أهميته القصوى.

وفعلاً، يتضمن هذا الكتاب، إلى جانب النصوص التي قرأها بنجامين في الإذاعة بين عامَي ١٩٢٩ و١٩٣١، والمقالات التي نشرها في مجلات ألمانية مختلفة، البحث الذي وضعه عام ١٩٣٤ ولم يُنشر منه سوى جزء صغير عام ١٩٥٥، نصاً لاذعاً انتقد فيه كتاب ماكس برود «كافكا» (١٩٣٨)، مراسلاته المجهولة مع جيرار شوليم وبرتولد بريخت وويرنر كرافت وتيودور أدورنو وغريتي كاربلوس وغيرهم حول كافكا، ومدوّنات ومشاريع بحثية رصدها للأخير وبقيت خارج التداول.

باختصار، نصوص تشكّل أداةً ثمينة لولوج عالم كافكا، وأيضاً للتعرّف إلى العمل التأويلي المثير لبنجامين. طبعاً، تتطلب هذه النصوص جهداً كبيراً من قارئها لفهمها نظراً إلى عمقها الشعري والفلسفي، وإلى المنهج الذي اتّبعه بنجامين فيها لقراءة كافكا، منهج يستـــحضر في كثير من جوانبه طريقة عمل الفيلسوف الألماني على بودلير في الكتاب الشــهير الذي رصده له، ولا ينتمي في طبيعته إلى ميدان النقد الأدبي بل إلى فلسفة التاريخ.

وفي الواقع، نستشفّ مقاربتين لدى قراءة هذه النصوص: فلسفية ولاهوتية، علماً أن لا تناقض في هاتين المقاربتين، بل إن اجتماعهما هو الذي يهيكل «مختبر» بنجامين حول كافكا ويمنحه كل قيمته وعمقه. فبعيداً من تأويلات ماكس برود وويلي هاس الدينية «الإيجابية» لأعمال كافكا، التي يرفضها بنجامين قطعاً، نراه مقتنعاً كلياً بأن هذه الأعمال «تحمل في صميمها سرّاً لاهوتياً». ولفهم دلالة هذا السرّ، تجب العودة ليس فقط إلى البحث الذي وضعه عام ١٩٣٤، بل أيضاً إلى مراسلاته مع شوليم، وتحديداً إلى الرسالة التي وجّهها له عام ١٩٣٤ ويشير فيها إلى «الجانب اللاهوتي الفضفاض، وإن كان مظلَّلاً»، في عمله، قبل أن يضيف: «في محاولتي التأويلية، أردتُ إظهار كيف أن كافكا، انطلاقاً من العدم، من بطانته، كان يبحث عن الخلاص».

ويشهد البحث والرسالة المذكوران على ديمومة الموضوعات اللاهوتية و «الخلاصية» في فكر بنجامين أيضاً، حتى خلال الفترة التي تتميّز فيها كتاباته بمسعى مادّي وتعكس بوضوح اقترابه من الفكر الشيوعي. وإذ يبقى هذا الجانب اللاهوتي «مظلّلاً»، كما يشير إليه في رسالته، إلا أنه سيظهر إلى العلن في كتابه الأخير، «أطروحات» (١٩٤٠)، الذي يشكّل وصيته الفلسفية.

ولا نخطئ إن قلنا أن ثمة أيضاً قراءة سياسية لكافكا في نصوص بنجامين، إلى جانب القراءتين الفلسفية واللاهوتية، قراءات مترابطة في شكلٍ وثيق تضيء بعضها بعضاً، وتشهد عليها رسالة أخرى وجّهها بنجامين إلى شوليم عام ١٩٣٨ ويقول فيها: «أعمال كافكا بمثابة إهليلج تحدد نقطتيه الثابتتين، التجربة الصوفية، من جهة، وتجربة الإنسان الحديث في المدن الكبرى، من جهة أخرى. وأقصد بالإنسان الحديث ذلك الذي يعرف أنه يخضع لجهاز إداري ضخم تديره مراجع تبقى هيئتها التنفيذية غير محدّدة، هذا كي لا نقول شيئاً عمّن يخضع لها. ومن المعروف أن هذا الجهاز هو إحدى الطبقات التأويلية لروايات كافكا».

ويحضر هذا البُعد السياسي في نصوص بنجامين، وخصوصاً في البحث الذي وضعه عام ١٩٣٤ ويقول فيه إنه، على خلاف نابليون الذي حدّد السياسة كقدر، «كان يمكن كافكا أن يحدد التنظيم البشري كقدر». تنظيم يظهر بسلبياته جيداً في تراتبيات الموظفين الحاضرة بكثافة في روايتَي «المحاكمة» و «القصر».

ولا شك في أن قراءة بنجامين السياسية هذه تأثّرت بحواره مع بريخت. ففي أحد نصوصه غير المنشورة، يلاحظ أن كافكا، بالنسبة إلى بريخت، «لم يعانِ سوى مشكلة واحدة، مشكلة التنظيم البشري الذي يشبه تنظيم النمل ويسلب الفرد إرادته. حتى أنه تنبّأ ببعض أشكال هذا الاستلاب، كالوسائل التي ستستخدمها شرطة الاتحاد السوفياتي (GPU). ولهذا، يصف بريخت «المحاكمة» بالكتاب الرؤيوي».

يبقى أن نقول إن أي جهد تأويلي غير قادر على استنفاد لغز أعمال كافكا، وأيضاً لغز قراءة بنجامين لها، وذلك من منطلق أن الأدب، مثل الشعر والفلسفة، يحافظ دائماً على ما سمّاه أندريه بروتون «نواة ليلية يتعذّر كسرها». وفي هذا السياق، نستحضر ملاحظة لويرنر كرافت يقول فيها: «أظن أن أعمال كافكا مقفلة كلياً وأن أي تفسير لنياته يخطئها حتماً. رحل كافكا وأخذ المفتاح معه». وربما كردٍّ على هذه الملاحظة التي يذكرها بنجامين في أحد نصوصه، كتب الأخير في رسالة وجهّها لكرافت: «أردتُ إبقاء يديّ حرّتين. لم أشأ وضع خاتمة. على المستوى التاريخي، ربما لم يحن الوقت لذلك. أن ندّعي تثبيت معنى أعمال كافكا هو جنون محض ـ جنون تأويلي».

أنطوان جوكي

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...