كوميديا عبثية تتخلى عن أدوات العرض

11-08-2009

كوميديا عبثية تتخلى عن أدوات العرض

في كتيب العرض نقرأ أن فرقة «باب للفنون المسرحية» تهدف إلى «تقديم أعمال تلغي الفكرة التزينية والشكلية للعرض المسرحي لمصلحة تعزيز الحوار كفعل أصيل فيه». والواقع أن الفرقة، المؤسسة حديثاً، جسدت هذه الرؤية في عرضها المسرحي الأول «الجمعية الأدبية»، للمخرج رأفت الزاقوت، الذي قُدّم على خشبة القاعة المتعددة الاستعمالات في دار الأوبرا في دمشق، إذ اتكأ العرض على المفارقات اللغوية، وعلى الثرثرة المجانية، وعلى انفعال الممثل وقدرته على تقمص الحالات النفسية المختلفة، في سبيل تحقيق عرض مسل يضمر جرعة نقدية لاذعة.

يتخفف هذا العرض المسرحي، المقتبس عن نص للكاتب الغيني هنري أوفوري، من العناصر والمفردات المسرحية التقليدية، ويركز على المواقف الكوميدية، وعلى الطرافة النابعة من حكاية العرض البسيطة، بدورها، والصالحة لتوظيف السخرية إلى حدود بعيدة. تتحدث المسرحية عن موظفين، خريجي جامعات، ممن ينتمون إلى مرجعيات وأصول اجتماعية مختلفة. هذه المجموعة تتواجد، بحكم وظائفها، في بلدة نائية، وباعتبارها مثقفة، ومن «نخبة المجتمع» كما تصف نفسها، فإنها تؤسس في تلك البلدة جمعية أدبية اجتماعية تعقد جلسات أسبوعية بهدف مناقشة الأوضاع الطارئة، ودراسة المستجدات، والبحث في ظروف المنتسبين إليها.

المسرحية تتناول، خلال ساعة (مدة العرض)، وقائع إحدى تلك الجلسات، وما يصاحبها من سجالات ومماحكات ونقاشات مضحكة تدور حول طاولة في وسط الخشبة ومقدمها، يجلس حولها ستة أعضاء من ضمنهم رئيس الجمعية وأمين السر وأمين الصندوق. ولنا أن نتخيل مقدار «الطيش» الذي يظهر في مثل هذه الاجتماعات المضجرة. لا يُطرح أي شيء مفيد في الاجتماع، فما إن يبدأ رئيس الجمعية أبو رجاء (وئام إسماعيل) بالابتهال المستهل للاجتماع حتى تنقطع الكهرباء، ولدى تدارك الوضع والشروع مجدداً في البدء حتى يصدر أحد الهواتف الخليوية موسيقى سريعة الإيقاع تنجح في كسر جلال هذا الاجتماع. وما إن يهدأ الوضع قليلاً لمواصلة فقرات الاجتماع حتى ينشب النزاع بين شيث (محمد ملص)، وبين أبو شلهوب (رازميك ديراريان). ويستثمر العرض خلاف هذين العضوين، ويعتمد عليه في بناء مشاهد كوميدية تعتمد على الحركة حيناً، وعلى الجمل والمفارقات اللغوية حيناً آخر. حتى المصالحة التي تتم بينهما في ختام الجلسة، تأتي على نحو عابث ينبئ بأن المعركة الكلامية ستتجدد بينهما في اجتماعات قادمة.

لا موسيقى تصويرية، ولا مؤثرات صوتية، ولا تصميم للإضاءة، فهذه عبارة عن مصباح ثابت ينير طاولة الاجتماع طيلة فترة العرض من دون أي تلوين بصري، والديكور، الذي يقتصر على طاولة كبيرة وبضع كراس، هو ثابت، بدوره، خلال العرض، وعلى رغم هذا التقشف المسرحي، إذا جاز التعبير، فإن ثمة اهتماماً بماكياج الممثلين وملامحهم التي بدت كاريكاتورية. وبهذا المعنى، فإن العرض ينهض، بصورة رئيسة، على أداء الممثل، وقدرته على تجسيد مواقف عبثية عبر الحركة والفعل والحوار الصاخب، والمفارقة أن هذه الشخصيات المرسومة على نحو «مرح وطريف»، تعتبر نفسها من «شريحة اجتماعية راقية»، فها هي تؤسس الجمعيات والأندية، وتناقش في الشأن العام، وتسعى إلى الإصلاح. وهذا التفاوت بين حقيقتها «الوضيعة»، وثرثراتها، ونزاعاتها الخفية والمعلنة، وبين نظرتهم الى نفسها على أنها من «علية القوم» ينجح في إبراز التناقض الذي يؤسس لعرض تهكمي انتزع ضحكات طويلة من الحضور الذي استمع إلى اجتماع من نوع غريب ونادر، فالحديث، خلال الاجتماع، عن محاضرة سابقة لرئيس الجمعية تناول فيها الفرق بين الشعبين الصيني والياباني، والاعتراض على جملة لم ترد في المحاضرة أصلاً، وانهماك آخر بمسح نظارتيه بينما يتلو أمين السر محضر الاجتماع السابق، والاعتراض على زيادة الموازنة الطفيفة، لا على نقصها كما يفترض في حالات مماثلة... كل ذلك يعزز الاتجاه الكوميدي لهذه المسرحية التي يمكن أن ننسبها إلى مسرح العبث أو اللامعقول.

وإذا تجاوزنا هوية العرض الكوميدية، وحاولنا تأويل مضامينه، فيمكن القول، عندئذ، إن هذه المسرحية تسعى إلى انتقاد واقع الجمعيات والهيئات والأندية التي تؤسس في الأرياف والبلدات البعيدة من العاصمة، والتي تفتقر إلى التقاليد وإلى الأسس الإدارية الصحيحة التي تمكنها من أداء دورها ووظيفتها، فضلاً عن أوضاعها المادية السيئة، فمثل هذه الجمعيات والأندية التي يديرها بعض الغفل، الذين وجدوا أنفسهم وسط شريحة اجتماعية أكثر غفلاً منهم، يمارسون دور «المعلم الرشيد، والمثقف المتنور»، في حين أن تفكيرهم محدود، وسرعان ما يستفزون عند أول امتحان. وقد يصل هذا الاستفزاز إلى حد التشابك بالأيدي، كما رأينا في إحدى جلسات الجمعية الأدبية. ويكشف العرض، من زاوية أخرى، عن أنانية المنتسبين الى هذه الجمعيات، وعن مكرهم الذي يحول رصانة الاجتماعات وحصافتها إلى نوع من التهريج، والتسلية، فبينما يلجأ الأعضاء إلى الخطابات المنمقة الرنانة، والكليشهات المملة، فإن الواقع، الذي يدّعون اهتمامهم به، يغلي في مكان آخر، بعيد عما يجري في هذه الجلسات من تهريج مجاني.

تعتمد الكوميديا في هذا العرض على المفارقات اللغوية، والفوضى اللفظية، وعلى المواقف غير المتوقعة، وعلى أزمات الشخصيات العاطفية والاجتماعية والاقتصادية، والواقع أن هذا الخليط اللغوي والبصري ينجح في صوغ عرض مسرحي بسيط، يجسد ما طمح إليه المخرج، إذ يقول: «عندما يزداد الضيق لا بد للابتسامة من الظهور. «الجمعية الأدبية» عرض أداته الضحك، وغايته ايجاد حالة من الحوار بين خشبة وجمهور...».

إبراهيم حاج عبدي

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...