محمد الأحمد يرد على عمر أميرلاي

10-05-2008

محمد الأحمد يرد على عمر أميرلاي

(أنا الكائن الذي أراد الخير دائما ولكنه لم يصنع سوى الشر)
ميفيستوفيلوس
من القسوة والإجحاف وقلة الفروسية ان نتهم الآن كل أولئك الذين حملوا احلاما بالرخاء والعدالة تبين انها اضغاث احلام وأوهام تقلد الحقيقة. بأنهم كانوا يرسمون مخططات خبيثة لتدمير الاقتصاد والثقافة والفكر. فقد كانوا ضحية لتلك المسافة المخادعة القائمة بين الرغبة والامكانية وبين الحلم والواقع. ولكن ثمة منهجا فكريا عريضا مسلحا بلغة خشبية متيبسة، قاموسها مليء بكل مفردات التكفير والتخوين والتسفيه والتفسيد (كيل تهم الفساد بالجملة) يطلع علينا بين حين وآخر ليصب اللعنات على هذا ويمنح البركات لذاك، آخذا على عاتقه تقويم كل أنواع الضلال، وإبادة كل أشكال الهرطقة، وتصفية الحساب مع كافة خطايا الماضي وأخطائه، معتمدا في ذلك على إيمان خرافي بالقوة السحرية التي تمتلكها الكلمة، وقدرتها على طرد الأرواح الشريرة او إنزال الأذى بالأعداء.
ضمن هذا الباب يمكن تصنيف مقالة المخرج السوري عمر أميرالاي في عدد الخميس 3/4/2008 من جريدة السفير، والتي يتوجها بالمانشيت القتالي التالي: (مؤسسة السينما في سوريا ملعب للفساد المالي والفني)، ويتعرض فيها بالنقد العنيف للنظام السياسي في سوريا وجملة التأميمات التي قام بها فيما مضى بشكل عام، والوضع السينمائي بشكل خاص. يتخذ أميرالاي من المؤسسة العامة للسينما مثالا ونموذجا مصغرا لواقع الحال في سوريا ويناقشها على هذا الأساس، وأنا أقبل هذا المثال والنموذج المصغر وسأكتفي به في حديثي هنا من دون التعريج على القضايا الأخرى التي طرحها بعجالة في مقالته.
في البداية أقول لمن سيظن بعد قراءة المانشيت المذكور ان المؤسسة العامة للسينما في سوريا مؤسسة اقتصادية عملاقة تتعامل مع مئات الملايين من الدولارات أقول ان هذه المؤسسة ليست سوى كائن مسكين ميزانيته السنوية لا تبلغ في أحسن الأحوال ثلاثة ملايين دولار يذهب ثلثها رواتب وأجور.
أنتقل الآن للرد على بعض النقاط الواردة في المقالة المذكورة:
1ـ من الخطأ الحديث عن تأميم لقطاع السينما في سوريا. فالقطاع الخاص كان ولا يزال الى الآن متمتعا بإمكانية انتاج الأفلام واستثمار صالات العرض، ولقد أنتج القطاع الخاص بعد احداث المؤسسة العامة للسينما ما يزيد على مئة فيلم طويل. الاجراء الوحيد الذي أقدمت عليه الدولة ويمكن ان يدخل في باب التأميم هو مرسوم حصر استيراد الأفلام بمؤسسة السينما الصادر عام 1969 والذي ألغي عام .2000 لقد رسم لهذا القانون أهداف نبيلة وخيرة كرفع الذائقة البصرية الشعبية وتعزيز الدور التنويري للسينما وغير ذلك من أهداف تبين أنها سراب، وأن الاضرار التي ألحقها هذا القانون أكثر بكثير من المنافع التي جلبها ولهذا تم إلغاؤه. ان من صنع هذا المرسوم ونادى به هو جيل عمر أميرالاي نفسه وأصدقاؤه من سينمائيين واداريين. بل ان بعضهم كان يريد تأميم صالات العرض كما حدث في الجزائر، وبعض آخر كان يريد تأميم حتى بائعي الشيبس والبوشار كما في المعسكر الاشتراكي، ولكن، لحسن الحظ، كان عقل الحكومة وقتها أكبر من عقولهم فلم تصغ اليهم. يجدر بالذكر ان من عمل على الغاء هذا المرسوم هو الادارة الحالية التي يكيل لها أميرالاي ما هب ودب من التهم، وليس عمر أميرالاي وأصدقاؤه. الغريب ان مرسوم الحصر ولد قبل أربعين عاما وتوفي غير مأسوف عليه قبل ثمانية أعوام والآن فقط قرر أميرالاي ان ينتفض عليه ويغضب بسببه.
2ـ النقطة السابقة تقودنا الى نقطة أخرى، ثمة خطيئة نموذجية يرتكبها بعضهم في السجالات الفكرية والسياسية تتمثل في تلك الرغبة الجامحة بتسجيل نقاط على الخصم حتى لو تطلب ذلك تزوير وتزييف الوقائع والمعطيات. مثال ذلك حديث أميرالاي عن تأميم شامل للثقافة والفنون مع ان ذلك غير صحيح. ظل هناك سينما خاصة ومسرح خاص ودور نشر خاصة ومعارض خاصة ومؤخرا أصبح هناك جرائد ومجلات خاصة ومحطات تلفزيونية خاصة وغير ذلك. كما انه يقول في أحد تصريحاته (بعد إتلاف «الجريدة الناطقة» التي كانت تؤدي دور الفيلم الوثائقي، لا وجود اليوم لأية وثيقة بصرية عن تاريخ سوريا القريب) ـ الأخبار عدد الاثنين 22 كانون الثاني 2007 ـ وهذا غير صحيح لان أعداد الجريدة الناطقة لا تزال محفوظة لدى المؤسسة. لدينا ما يقارب مئة ساعة مصورة منها، وبنسختين احداهما سالبة والأخرى موجبة.
3ـ يقول أميرالاي (... ناهيك عما يدبّر لها حاليا (أي للمؤسسة) من مخطط خطير للنيل من الهدف الأساسي الذي أوجدت المؤسسة من اجله وهو بناء صناعة سينمائية وطنية في البلاد، وذلك بتخلي ادارة المؤسسة الحالية عن تقنية السينما لمصلحة نظام (الايتش دي) ذي المردود الرشوي السخي الذي يفوق بكثير مردوده الانتاجي والفني مجتمعين، خصوصا اذا ما ثبت ما قيل مؤخرا عن عزم المؤسسة شراء شاحنة للبث التلفزيوني المباشر بملايين الدولارات).
أولا: المؤسسة لم تتخل عن تقنية السينما (أي شريط 35مم) لمصلحة نظام (الايتش دي) أي تقنية التصوير بكاميرا فيديو ديجيتال فائقة الدقة، وإنما أدخلت هذا النظام كتقنية اضافية في تصوير الأفلام. وهي ليست بدعة استحدثتها مؤسسة السينما وإنما تقنية معتمدة في العالم السينمائي بأسره، انها تفتح امكانيات تعبيرية لا حدود لها خاصة على صعيد المؤثرات البصرية. ولا نفهم علاقة هذه التقنية بالرشوة. هل يعني كلامه ان الرشوة ستكون أقل اذا استعملنا شريط 35مم؟ ولكنه هو نفسه، ومنذ زمن بعيد، يستعمل تقنيات الفيديو في تصوير أفلامه ومع ذلك لم يتهمه أحد بالرشوة او الاختلاس! وإنني أستغرب ان لا يقبل شخص للآخرين ما يقبله لنفسه. كاميرا الفيديو وكاميرا السينما مجرد تقنيات ولا علاقة لهما بالخير او الشر. الخير والشر كامنان في اليد التي تمسك بهما والعين التي تنظر من عدستيهما.
ثانيا: ما يسوقه عن عربة النقل التلفزيوني صحيح، فهي ليست سرا مكتوما او مخططا تآمريا، كما يريد او يوحي لنا، وإنما خطة انتاجية معلنة نوقشت بتوسع، وعلى مدى شهور، في لجان الخطة الاستثمارية التابعة لمؤسسة السينما ووزارة الثقافة وفي اللجان الاقتصادية التابعة لمجلس الوزراء، والهدف منها متعدد الجوانب: فمن ناحية ستقوم هذه العربة بدور رئيسي في تغطية نشاطات وفعاليات الوزارة، وبثها الى القناة التربوية الجديدة التي ستفتتح قريبا، والتي ستتقاسم ساعات بثها وزارتا التربية والثقافة، ومن ناحية أخرى، وباعتبارها ستوديو كامل متحرك، ستفتح بالنسبة لنا كمؤسسة للسينما آفاقا جديدة تتمثل في انتاج أفلام تلفزيونية قليلة التكلفة الى جانب انتاجنا السينمائي، وفي تشغيل الجيل الشاب من الفنيين والتقنيين. اننا نعول على هذه العربة في توثيق الثقافة السورية والحفاظ على ذاكرتها. لأن التلفزيون يتعامل عادة مع الأنشطة الثقافية المختلفة كمجموعة من الأخبار ولا يخصص لها سوى حيز صغير من فضائه.
النظرة الأحادية ذات البرمجة المسبقة لم تسمح لأميرالاي ان يرى الدور الهام الذي قامت به المؤسسة على امتداد عمرها في احتضان تجارب فنية متعددة لسينمائيين مختلفين لا يغامر القطاع الخاص في اسناد فيلم الى أي منهم، وفي إنتاج أفلام لم يكن من الممكن ان ترى النور لولا وجود المؤسسة.
ولم تسمح له بأن يرى الدور التنويري الذي تقوم به في مجال نشر الثقافة السينمائية عبر كتب سلسلة الفن السابع، وعبر التظاهرات السينمائية التي تقيمها سنويا وعبر مهرجان دمشق السينمائي، رغم قلة الامكانيات المادية المتاحة لها.
تتكرر كلمة الفساد مرات عدة في مقالة أميرالاي، وفي كل مرة يحاول الغمز من قناة المؤسسة. إننا كمؤسسة نؤمن بعمل المؤسسات، ولدينا كما لدى بقية دول العالم أجهزة وهيئات قانونية حكومية مهمتها مراقبة عمل مؤسسات الدولة والتأكد من سلامة مبادلاتها الادارية والمالية وتصويب أخطائها. ونحن نعتقد ان لهذه الأجهزة والهيئات وحدها الحق في توجيه تهم من هذا النوع، أما ما عدا ذلك فهو مجرد ثرثرات غير مسؤولة لا قيمة قانونية او معنوية لها. بل وتعرض صاحبها للمساءلة القانونية بجرم القذف والتشهير. إننا نقف هذا الموقف ليس تجاه ما يصدر بحقنا من مثل هذه الثرثرات وإنما تجاه ما يصدر منها بحق خصومنا أيضا. أيعتقد عمر أميرالاي بأنه في منجى منها؟ للأسف بعض المثقفين لا يقنع بدوره كمثقف، وإنما يريد ان يؤدي عمل القائد السياسي والخبير الاقتصادي والمفتش المالي والمحقق الجنائي ورجل الاعلام والقاضي والشرطي... الخ. يتحدثون عن الأنظمة الشمولية في حين ان كلا منهم نظام شمولي مصغر.
إن ما ينبغي الحديث عنه هنا هو الفساد الأخلاقي وتعريض الآخرين لأسوأ أنواع الخداع. لقد تقدم عمر أميرالاي للمؤسسة بطلب للموافقة على تصوير فيلم عن الآثار السورية، ولكن هذا الفيلم خرج لاحقا باسم (الطوفان في بلاد البعث). لقد أوهم الأشخاص الذين صورهم في فيلمه بأنه يصنع شريطا وثائقيا يمجد الرئيس الراحل حافظ الأسد وعهده، فاستقبلوه بحفاوة وأكرموا وفادته هو وفريقه، ولكنهم عندما شاهدوا الفيلم بدأوا رحلة البحث عن مخرجه.

محمد الأحمد- المدير العام للمؤسسة العامة للسينما في سوريا

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...