كيف تصبح كاتباً عظيماً؟
أجرت صحيفة "ذا غارديان" البريطانية تحقيقاً أدبياً مع عدد من الفائزين بالجوائز الأدبية العالمية، سألتهم فيه عن الأسرار التي يجب أن يتعلّمها الكاتب الناشئ ليصبح كاتباً عظيماً، والمطبّات التي ينبغي له أن يتفاداها في هذا الصدد، فأجابوا، كلٌّ بحسب طريقته ومزاجه واقتناعاته وخبراته. النتيجة عشر وصايا، لستُ مقتنعاً بفائدتها، وليست غايتي أن أوردها في هذا المقال على سبيل الترويج لها، ولكن يمكن الاطلاع عليها في العودة الى موقع الجريدة على الانترنت، أو بقراءة "أخبار الأدب" المصرية، في عددها الصادر في 7 آذار الجاري.
بكل بساطة، ليس هناك وصفة طبية، علمية أو سحرية، يكفي أن يتجرعها المرء لكي يتحرّك عصب الخلق الأدبي في دماغه وجهازه الروحي، فيروح يدبّج ما يجعل منه الكاتبَ العظيم المشتهى.
لستُ "كاتباً عظيماً"، لكن إذا سألني أحدهم يوماً مثل هذا السؤال، فلا يهمّني أن أكون واعظاً، ولا وسيطاً في تلقينه مثل هذه الأسرار، وتجنيبه مثل تلك المطبّات، لاقتناعي شبه المطلق بأن مسألة الكتابة لا تحتاج الى كل هذه الفذلكات والوصفات والعلاجات.
يحلو لي أن أشبّه هذه الوصايا بما ينتشر على الشاشات من برامج لتلقين فنون الطبخ، التي لا يمكنها أن تدسّ "نَفَساً"، هو وحده يشيع النكهة في أطباق المأكولات والحلويات. هذا "النَفَس" في الأكل هو نفسه الموهبة الأدبية، وكلاهما لا يُتعلَّمان.
لا أريد أن أذهب بعيداً في التفلسف، إنما سأكون بسيطاً جداً ومتواضعاً جداً مع الكتّاب والقرّاء الأعزاء، وسأفاتحهم بأمثلة وبراهين لا بدّ من أن الكثيرين يعرفونها، وهي توازي عندي من حيث الموهبة، ما يتيسر من طعام جوهري هو "من حواضر البيت"، لكنها، أكيداً، أمثلة وبراهين تغني عن جوع وعطش أدبيين.
محمد الماغوط لم يدرّسه أحد فنون الكتابة، ليصبح شاعراً وكاتباً كبيراً.
وديع سعادة لم يتلقَّ أسرار المهنة على يد أحد، بل نشأ شاعراً من تلقائه، وأصبح شاعراً كبيراً من تلقائه.
سليم بركات، هو الآخر، لم يذهب الى جامعة ولا الى ورشة تعليمية تلقّنه فنون اللغة العربية وكتابتها شعراً ونثراً.
بسّام حجّار، لم يجد في الكتب الغفيرة التي قرأها، ولا في الآداب والفلسفات التي تبحّر فيها، ما جعله يلجأ اليها لتكون "ملهمته"، بديلاً من موهبته الفذّة التي جعلت منه شاعراً كبيراً.
يمكنني أن أكمل التعداد الى ما لا نهاية، شعراً وروايةً، سلباً وإيجاباً، فأذكر الكثير من الأدباء الذين ذهبوا الى الينابيع وعادوا منها بجرار فارغة وخائبة (عندنا وعند غيرنا من الأمم)، وأذكر معهم عدداً غفيراً من الذين أُعطوا المواهب الكبيرة فكتبوها، من دون أن يحقنهم أحدٌ بالوصايا أو يلقّنهم الأصول والأسرار.
بالموهبة والمراس التجريبي والثقافي، صنع هؤلاء إعجازات أدبية، ولم يركنوا الى وصفة سرية، ولا الى وصية.
فلينوّرني أحدٌ ما، وليقل لي، مَن علّم جورج شحادة وجورج أورويل وأرنست همنغواي وهنرييت شحادة وأناييس نين وامرأ القيس وعمر بن أبي ربيعة وعبد الحميد الكاتب وكتبة "ألف ليلة وليلة" وكاتب نشيد الأناشيد وابن المقفع والمتنبي وأبا نؤاس وأبا تمّام وزكريا تامر وإيتل عدنان وجويس منصور واليوسيوس برتران وجورج حنين ورامبو ونيتشه وريلكه وثرفانتس وبودلير وشكسبير وجبران وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا وأدونيس وفؤاد سليمان... أسرار الكتابة الأدبية؟
لا أحد علّم هؤلاء. لا وصية. لا وصفة. لا سرّ. لا طريقة. لا شيء على الإطلاق كان السبب في شهرة هؤلاء، وفي حظواتهم الأدبية. فقط، "خلطة عجيبة" هي من كيمياء أدمغتهم ونبوغها. ثم، في ما بعد، كل شيء ممكن، ويُتعلَّم، ويُختبَر، ويُضاف.
في أحد الأيام، وقد كنتُ أصغر عمراً، قلتُ لأحد أصدقائي إني أريد أن أقدّم وروداً الى امرأة، على سبيل التودّد اليها والتقرّب منها، بعدما "وقع" قلبي فيها. سألني الصديق، وكان صاحب ذكاء خفر ومراس وخبرة وشطارة في "علم النساء": هل أنتَ متأكد من أن الورود ستقع موقعها الموضوعي الحسن في قلب تلك المرأة بحيث تؤدي الغاية المرجوّة منها؟ قلتُ: لا. قال ناصحاً ومحذِّراً: لا ترسلها. لكني لم أتردّد فأرسلتُها حينذاك للتوّ، مع رسالة قلب مفتوح أبوح لها فيها بكل شيء، وبدون أيّ حساب لخطّ الرجعة: إما قتيلاً وإما قتيلاً. و... لم أكن مخطئاً في ما ذهبتُ اليه، وقد دلّتني غريزتي، وأقول الحدس، بل أقول أيضاً وخصوصاً: عماء قلبي، وسموم عينيها، ليس إلاّ.
هذه طبعاً، ليست قاعدة، ولا دائماً تسلم جرّة الغريزة والحدس. فهناك حاجة دائمة، في ما بعد، أو بالتزامن، الى "خلطة" هي وحدها تصنع الإعجازين القلبي والأدبي. وأنا أقول بالـ"خلطة" التي منطلقها الموهبة، ولا أتحدث عن وصفة أو وصية. فلا وصفات ولا وصايا عشر، لا في الإعجاز القلبي، ولا في الإعجاز الأدبي.
في الآونة الأخيرة، أي خلال العشرين عاماً الأخيرة، عمدت بعض المؤسسات والهيئات والمختبرات الأدبية المختصة الى تنظيم ورش لـ"تعليم" الكتابة الشعرية والروائية، أفضت الى نتائج متفاوتة في الأهمية، سلباً وإيجاباً، فـ"خرّجت" أدباء ناجحين، وباءت بالفشل مع آخرين.
الشيء نفسه، يجري، ولكن منذ زمن طويل، في مجال تعليم الفن التشكيلي، والرقص، والمسرح، وبعض الفنون الأخرى. النتيجة؟ معروفة سلفاً، وتُعرَف أيضاً في ما بعد، على رغم التناقضات الجمّة والنافرة التي تنطوي عليها، دحضاً لفكرة الوصايا والأسرار والوصفات.
لماذا؟ لأن هناك "شيئاً ما" لا يُتعلَّم، ولا يوصف، ولا يلقَّن. هذا الـ"شيء ما" إما يكون موجوداً في الروح، روح الدماغ، وإما لا. وعبثاً يجرّب المجرّبون.
أخلص من هذه كلّه لأقول: لا وصفة جاهزة وتحت الطلب، على الإطلاق، تستطيع أن تجعل الحجر ناطقاً. الشيء نفسه أقوله في شأن العينين، والقلب، والقلم، والريشة، وشاشة الكومبيوتر.
لكني إذ أقول ما أقول، فلا بدّ من أن أتدارك قولي قليلاً، وبقوة، فأردف مشدّداً على أهمية ما يقول به خبراء، كالخبراء الذين استفتتهم "ذا غارديان" البريطانية، حين تحدثوا عن شروط يأتي مقامها... في ما بعد. دائماً في ما بعد.
حتى هذه الـ"في ما بعد"، لا وصفة جاهزة وغبّ الطلب لها، إذ "يختلف" هؤلاء الكتّاب الذي شملهم الاستطلاع في تحديد هذه الشروط.
في باب التواضع الأدبي، أورد ما يأتي: لا بدّ من أن تنشب كهرباء ما في الدماغ، من شأنها استفزاز غريزة هذا الـ"شيء ما" الذي ينام في طيّات روح العقل، لـ"يقوم" الى ملاقاة هذا "المستفزّه" والوافد اليه من خبرات وتجارب واختبارات وعلوم ووصايا ووصفات وصناعات وهلمّ.
إسألوا ريلكه في "رسالة الى شاعر شاب"، يعطكم الجواب الشافي. و... الله أعلم!
عقل العويط
المصدر: النهار
التعليقات
كيف تصبح كاتباً؟
إضافة تعليق جديد